من يزر سوق “الحلو” فكأنه في سوق الذهب، كلاهما جن وحلّق وغاب في قبة السماء كالنجوم في عز الظهيرة، قواسم مشتركة بين المعدن الثمين للزينة، والحلو للطعام، لا يقتنيهما اليوم سواد المجتمع، وإن صادف واشترى البعض، فهم القلة القليلة، الفقراء يمرون من أمام واجهات الذهب، ويتحسّرون، وكذلك أقرانهم من يمرون بحكم العادة في أسواق الحلو، فهم كذلك ينظرون بعيونهم، ويترحّمون بقلوبهم!.
مغريات مدروسة
نعم القواسم أكثر من أن تعد أو تحصى، فكلاهما بات محبوساً في “مني كان” من البلور الشفاف المعشّق بقوس قزح من الألوان، وفوانيس الكهرباء الذهبية التي تتدلى فوق “صواني” الحلو كأنها النجوم، زادت من لمعانها وبريقها، وضاعفت في جمالها ولذتها، وبالغت في إحراق قلوب المارة.
لا جدوى من الإغراءات
تقصّدنا أن نكون في سوق الحلو في الميدان الدمشقي، وليس للتعريف، لأنه أكبر من أن يعرّف، والجميع يعرفه في وقت ما قبل الإفطار، الوقت الذي يحببه الباعة والزبائن على حد سواء، نعد المحلات والمطابخ ذهاباً وإياباً من كثرة عدد المعروضات التي ضاقت بها المحلات، فتعدت على الأرصفة، بل واحتلت الشارع، حتى إن السيارة الواحدة في اتجاه واحد لا تكاد تمر إلا بصعوبة، ولكن لا فائدة، المعروض برّاق، ومغر، وأجمل من شعاع الذهب، ولكن لا جدوى رغم حرفية الصائغ، والبائع الذي أتقن عبر سنوات كيفية جذب العقول قبل البطون، لأن الجيوب خاوية على عروشها، ولن يصلح العطار ما أفسده الزمن، وهناك مسافات شاسعة بينهما، كما السماء والأرض، والذهب، والحلو!.
الناعم حلو الفقراء
انتظرنا، وانتظرنا، يمر العباد، وينظرون بعيونهم، ويترحّمون بقلوبهم، يتفقدون الأنواع، والجديد، ويتابعون المسير نحو حلوهم من جلدتهم “الناعم”، وهو عبارة عن خبز فرن مغلي بالزيت، و”مرشوش” بقليل من الدبس، وبعضهم الآخر بالغ بالصرف، كما يقول الحاج أبو أحمد، واشترى “هريسة”، لأنه لم يعد يستطيع الكذب على أولاده أكثر، فهو وعدهم أكثر من مرة بجلب الحلو لهم على مائدة الإفطار، وحتى هذه “الهريسة” أكبر من طاقته، كما وصف!.
فاتورة مدفوعة
نتابع تفحّص محلات الحلو، ونمر بصعوبة بين “الصواني”، عشرات الصانعين توزعوا بين أركان ورفوف الحلو بلباسهم الأبيض الناصع، و”القمباز” الأحمر، و”الشروال” الأسود، في منظر لا أجمل ولا أبهى من ذلك، وكل هذا زاد على فاتورة الحلو، ولكن أيضاً بلا جدوى!.
كلام صريح
نقترب من أبي عرب حيدر، أكبر وأشهر صاحب مطبخ حلويات في سوق الميدان، نسأله: هل العباد صيام عن الحلو حتى بعد موعد الإفطار؟! ولماذا كل هذه المعروضات، وقلة البيع؟! وأين يكمن السر: بارتفاع فاتورة كل أنواع الحلو، أم بإفلاس الجيوب، أم بانتشار السكر الطبيعي في أجساد الفقراء وذوي الدخل المحدود؟! وبماذا يختلف رمضان هذا العام عن الأعوام المنصرمة؟! يجيب شيخ الكار أبو عرب دون تردد عن أسئلتنا وبدبلوماسية، ولكنه يعيد طرح أسئلتنا على شكل أجوبة: نعم الناس صيام عن الحلو، ومن النادر أن يأتي أحد ويشتري أكثر من صنف، على خلاف ما قبل الأزمة: الأسواق عامرة، ورمضان كريم، ولا نستطيع مجاراة الزبائن بما يطلبون، أما اليوم فنصنع ونتحايل على الزبائن بكل المغريات والزينات الجاذبة، ولكن مع هذا لا زبائن أبداً، حتى إننا لم نربح إيجار العمال والمصروفات، يتابع أبو عرب: نحن لا نلوم الأهالي، ولكن أيضاً ما ذنبنا، الطحين تضاعف عشرات المرات، وكذلك السمن البلدي، وكذلك السكر، والغاز، والضرائب، وكل هذا ساهم برفع كيلوغرام الحلو عشرات المرات، ويضيف أبو عرب: كنا في السابق ننتظر شهر رمضان والعيد حتى نعوّض خسائرنا، أما اليوم فالخسائر مستمرة، ولا يظن أحد أن ارتفاع الأسعار في مصلحتنا، لأن من مصلحتنا أن يكون السعر بمتناول الجميع، فكلما كثر الزبائن، وازداد البيع، تضاعف الربح، وهكذا يستطيع المواطن أن يمرر في شهر رمضان أكثر من أكلة حلو، بينما اليوم، كما ترى، السوق جامد، ولا حركة في سوق البيع، والحل ليس بتنزيل السعر، وإنما أيضاً بترخيص أسعار المواد المصنعة ومنها الحلو، من سكر، وطحين، وسمن، وغاز، وغيرها حتى تعود الأسعار كما هي، ويعترف شيخ كار الحلو بأن الأسعار أكبر مما يستطيع تحمّلها عامة الناس، وهي تناسب اليوم بعض الأسر المخملية، وهؤلاء لا يأتون إلى الميدان، وإنما يشترون من “المالكي”، و”أبو رمانة”، و”الشعلان”، وهي حلويات مستوردة من المطبخ الايطالي والفرنسي، بينما كان سوق الميدان للجميع، للأغنياء، والفقراء، والموظفين، والطبقة الوسطى، أما اليوم فلا أحد يشتري، ونخشى فساد الحلو، أو يباسه في “صوانيه”!.
بالفرح يخفي أحزاناً يمكن تلمّسها
نستوقف بعض المارة عنوة، ونسألهم عن رأيهم في أسعار الحلو، يضحك البعض ويتابع، والبعض يسخر من سؤالنا، تتجرأ الحاجة أم فادي فتقول: الله يرحم أيام زمان، كل شيء رخيص، والحلو لا يفارق بيوتنا، سواء المصنوع في الأسواق، أو ما نعمله على أيدينا، أما اليوم لا هذا ولا ذاك، الحلو أصبح حلماً، حتى المشبك والعوامة، حلويات الفقير، لم تعد بمتناول اليد، فنهرب إلى التمر الذي كان يقال فيه: “البيت الذي لا يوجد فيه تمر هو جائع”، اليوم حتى التمر أصبح حلماً لكثير من العائلات، وتنهي أم فادي حديثها بالدعاء على من كان السبب بجنون الأسعار، وقلة المواد!.
اعتراف مسؤول
الصدفة خير من ألف ميعاد، كما يقول المثل، تشاء الصدفة أن نصادف دورية حماية المستهلك في المكان، نسأل أحدهم، البائع يشتكي السعر، والشاري يشكو من ارتفاع الأسعار، أين يكون الخلل، بعدم تقيد البائعين بالأسعار، أم بقلة الرقابة؟! يجيب بكل صراحة: المواطن معه حق، وكذلك البائع، المواطن يريد الأسعار كما كانت قبل الأزمة، وهذا مستحيل، لأن مكونات الحلو قد تضاعفت عشرات المرات، والمشكلة ليست بقلة الرقابة، وهذا ليس دفاعاً عن مديرية حماية المستهلك، حتى ولو التزم البائع بالسعر المحدد من الجهات المعنية، وهو سعر التكلفة، مع هامش ربح بسيط، لا يستطيع المواطن الشراء، لأن أسعار الحلو أكبر مما تطاق، وأكثر مما تحتمل!.
رأي منطقي
وبعد هذه الجولة الميدانية سألنا باسل الطحان مدير حماية المستهلك في وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك مازحين معه: كم مرة اشتريت الحلو في رمضان، يضحك قائلاً: لم يدخل بيتي، فإذا كان مدير حماية المستهلك لم يشتر الحلو، ولم يدخل بيته، فما بالك بعامة العباد، وبعيداً عن المزاح، ماذا عن أسعار الحلو يا مدير الحماية، يجيب بكل صراحة: أعلى مما يطمح إليه المواطن، وحقيقة أصبح الحلو على موائد رمضان حلماً لا تناله إلا الطبقة المخملية، وهؤلاء أقل من أصابع اليد الواحدة، الحل ليس بمراقبة الأسعار، وإن كان هذا أمراً مطلوباً وضرورياً للجم السوق، ونحن موجودون في الأسواق، وحتى نكون منصفين للتاجر والمواطن لن تنخفض أسعار الحلو إلا بعد انخفاض أسعار المواد الداخلة في صناعة الحلو من سمن، وزيت، وسكر، وغاز، وتصبح بمتناول الجميع كما كانت!.
ضيف عابر
الشمس لا تغطى بغربال، كما يقول المثل، ولسان الأهالي والتجار والجهات المعنية بأن أسعار الحلو حلوة وخيالية، ولهذا كان الحلو ضيفاً عابر سبيل على موائد الصائمين في شهر رمضان الخير على خلاف العادة في السنوات الماضية، نعترف أن الخلل لم يكن بالتلاعب بالأسعار، ولا بقلة الرقابة، وإنما بارتفاع مكونات الحلو أصلاً، لذلك نقول: إن الحلو يزيد البدانة، وهكذا نقنع أنفسنا، ونتصالح معها حتى يخلق الله حالاً آخر!.
البعث
Discussion about this post