في التاسع عشر من شهر مايو في عام 1919، وصل جنرال عثماني ماكر يدعى مصطفى كمال على متن باخرة إلى سامسون، المطلة على ساحل البحر الأسود. وقبل ذلك بأيام قليلة، في القسطنطينية، كان كمال قد أقنع المسؤولين البريطانيين المحتلين بعمله كمفتش عام بمحض اختياره، وأنه سيقدم تقارير عن حالة القوات العثمانية عبر الأناضول في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
ولكن لدى وصوله إلى سامسون لم يفعل أي شيء من هذا القبيل. وبدلاً من ذلك، ذهب إلى الوحدات العثمانية عبر الأناضول، وحذرها من عمليات الإنزال الإيطالية واليونانية على ساحل البحر المتوسط، ودعاها إلى الانضمام إليه في محاربة قوات الحلفاء، فيما أصبحت بعد ذلك حرب الاستقلال التركية. أي تلميذ في المدارس التركية يعلم قصة الوصول إلى سامسون، التي أضحت عيدا وطنيا. غير أن القليلين يعرفون كيف حكم قائد حرب الاستقلال بعدما أسس الجمهورية التركية عام 1923.
صحيح أن كمال قد أنهى الخلافة وأسس دولة ديمقراطية علمانية في ظاهرها، ونقل تركيا إلى العصر الحديث بمجموعة من الإصلاحات والمبادرات التعليمية المهمة، إلا أن أتاتورك -الذي وصف في عام 1934 بأنه “أبو الأتراك”- ظل يتمتع بسلطة مطلقة دون حسيب أو رقيب حتى وفاته في عام 1938.
حظر أتاتورك جميع أحزاب المعارضة السياسية وأغلق المنظمات الدينية والمدنية، من الجمعيات النسائية إلى الجماعات الصوفية. ولم يخض أتاتورك أي انتخابات، وفي المرة الوحيدة التي واجه فيها تصويتا، جرى انتخابه بالإجماع من 158 نائبا لرئاسة الجمهورية الوليدة.
أعدمت محاكمة نحو خمسة آلاف معارض، وقتل أحد حراسه المعارض علي شكري بك خنقا، وتم الزج بمنافسه السياسي كاظم قره بكير، أحد أبرز القادة والجنرالات في حرب الاستقلال، في السجن بعد حظر حزبه السياسي. هل يبدو ذلك مألوفا؟
لم يحظر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للأكراد، لكنه وصف أعضاءه بأنهم إرهابيون، وألقى بكثير من قادته في السجن، وعزل العشرات من مناصبهم البلدية. وما فعله مع عشرات الآلاف من الأنصار المزعومين لصديقه القديم وخصمه الحالي فتح الله غولن، الذي تلقي تركيا على عاتقه مسؤولية محاولة الانقلاب الفاشلة التي جرت في عام 2016، قد تم توثيقه جيدا.
ثمة الكثير من القواسم المشتركة بين أتاتورك وأردوغان. فكلاهما يعتمد على القومية الشعبوية لحشد الدعم، وكلاهما أثبت استعداده لتقويض حقوق الأقليات، وكلاهما سيطر على وسائل الإعلام، وكلاهما واجه مشاكل خطيرة في الثقة فيما يتعلق بالانتخابات.
غير أن هناك فرقا جوهريا بين الرجلين، وهو أن أتاتورك كان دكتاتورا في عصر كان هذا النمط من القيادة فيه مألوفا. ففي أنحاء أوروبا وصل المستبدون إلى السلطة لبناء دول جديدة بعد سقوط الإمبراطوريات، ومن بينهم موسوليني في إيطاليا وهتلر في ألمانيا وبيلسودسكي في بولندا وستالين في الاتحاد السوفييتي، وهؤلاء، على سبيل الذكر لا الحصر، لا تقارن سجلاتهم مع سجل رجل تركيا القوي.
وفي مسعاه لدفع تركيا نحو الغرب العلماني، قمع أتاتورك الجماعات الدينية والمحافظة قمعا شديدا، ما أدى إلى تهميش المسلمين المتدينين. وبالتالي، كان من المتوقع صعود المحافظين إلى الحكم بعد بضعة عقود، أمثال رئيس الوزراء تورغوت أوزال، والأكثر منه رئيس الوزراء نجم الدين أربكان معلم أردوغان. الأمر الذي لم يكن متوقعا كثيرا، ولاسيما أن المراقبين الغربيين كانوا يقدرون أردوغان خلال سنواته الأولى في السلطة، هو تحول تركيا في عهد أحدث هؤلاء المحافظين صوب أسلوب حكم عفا عليه الزمن.
فالقرار الذي صدر في وقت سابق هذا الشهر بإلغاء انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول التي أجريت في الحادي والثلاثين من مارس، تحت ضغط من أردوغان وحزبه العدالة والتنمية الحاكم، بدا بشكل مثير للريبة وكأنه خطوة صوب دولة الحزب الواحد.
في المرة الأخيرة التي ألغى أردوغان انتخابات فعليا -حين دعا إلى انتخابات مبكرة عقب الانتخابات البرلمانية التي أجريت في يونيو عام 2015 وانتزعت الأغلبية البرلمانية من حزب العدالة والتنمية للمرة الأولى والوحيدة حتى الآن- لم تكن جعبته تخلو من حيلة يضمن بها النصر. فخلال أسابيع، أنهى حزب العدالة والتنمية عملية السلام مع المتمردين الأكراد وأشعل الصراع من جديد في جنوب شرق تركيا، في مسعى لإذكاء النعرة القومية.
ماذا خطط أردوغان للتمسك بإسطنبول؟ أيا كان ما يخطط له، من المستبعد أن يكون جيدا للديمقراطية التركية. ولكن هل هو على استعداد لأن يخسر آخر ما تبقى من فتات شرعيته السياسية والتحول إلى أتاتورك بالكامل؟
كان إتش. سي أرمسترونغ، المسؤول البريطاني الذي عمل في تركيا لسنوات قبل قيام الدولة وبعدها، يعرف معظم كبار المسؤولين الأتراك ومن بينهم أتاتورك. ويبدو أنه التمس العذر لمؤسس تركيا في أساليبه الاستبدادية، إذ اختتم كتابه “الذئب الأغبر” الصادر في عام 1932 والذي يحكي سيرة أتاتورك بالقول “لقد كان دكتاتورا لعله يستحيل بعد ذلك ظهور أي دكتاتور جديد على الإطلاق في تركيا”.
في العقود الثمانية التي أعقبت رحيل أتاتورك عن الساحة السياسية، كانت نبوءة أرمسترونغ حقيقية. بدأ عصر التعددية الحزبية في عام 1946 بتأسيس الحزب الديمقراطي، وتولت سلسلة من الحكومات الائتلافية السلطة. شهدت البلاد عددا من الانقلابات، كان آخرها في عام 1997، لكن تركيا اعتبرت على نطاق واسع في خضم عملية إرساء الديمقراطية، التي توجت بوصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في عام 2002.
حين تولى أردوغان منصب رئيس الوزراء للمرة الأولى عام 2003، تعهد باحترام المؤسسات الديمقراطية في تركيا. وبعد مرور عشر سنوات، أعلن أن “مسار الديمقراطية يمر عبر صندوق الاقتراع… وصندوق الاقتراع نفسه هو إرادة الشعب”. بيد أن تلك الأيام قد ولّت منذ فترة طويلة. فقد ذكرت صحيفة واشنطن بوست الأسبوع الماضي أن تركيا تحولت إلى “دكتاتورية تتسم بفرق الاغتيال والخوف”.
ربما يكون ذلك تسرعا من الصحيفة في تقديراتها. فأردوغان وحزب العدالة والتنمية وصلا إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، لا بالقوة الغاشمة، واحتفظا بالسلطة عبر سلسلة من الانتخابات الحرة إلى حد كبير، إن لم تكن نزيهة بأكملها. ولا تزال أحزاب المعارضة باقية، بل وحققت بعض المكاسب الحقيقية في انتخابات الحادي والثلاثين من مارس، بغض النظر عما حدث في إسطنبول في النهاية.
بعد مرور قرن على أحداث سامسون، التي لم يتبق سوى أربع سنوات على ذكراها المئوية، تكاد تركيا الآن تكون دولة ديمقراطية بشق الأنفس.
انتاب المحللين قلق لسنوات من أن يعمل أردوغان على أسلمة تركيا، ويبتعد عن النموذج العلماني الذي أرساه أتاتورك. والمشكلة هي أن أردوغان يعيد البلاد تدريجيا، إلى أصولها في دكتاتورية الحزب الواحد.
ماذا خطط أردوغان للتمسك بإسطنبول؟ أيا كان ما يخطط له، من المستبعد أن يكون جيدا للديمقراطية التركية
دايفيد ليبسكا
كاتب مختص بالشأن التركي