يترقب الأتراك نقاشا مباشرا على الشاشات سيجري الساعة التاسعة مساء الأحد 16 يونيو بين بن علي يلدريم وأكرم إمام أوغلو، ضمن التحضيرات لانتخابات بلدية إسطنبول العامة.
من ولدوا حين تولى حزب العدالة والتنمية وأردوغان السلطة في انتخابات 3 نوفمبر 2002 يبلغ عمرهم 17 عاما حاليا. أما من كانوا في سنّ الـ5 في ذلك الوقت ودخلوا مدارس رياض الأطفال فهم في الـ22 الآن، بينما من التحقوا بالمدرسة الابتدائية في سنّ الـ7 هم في الـ24 الآن.
هذا الجيل عاصر وشهد طيلة حياته وحتى اليوم حزبا واحدا ورجلا واحدا يحكم البلد والمدن التي يعيش فيها، ورأى فوزه بكل الانتخابات، واستمع لخطابات شخص واحد تبث مباشرة يوميا ولساعات طويلة على شاشات التلفاز.
حتى بعد الانقلاب العسكري في 12 سبتمبر 1980، عندما قرر الجنود العودة إلى النظام الديمقراطي، دار نقاش حاد بين قادة الأحزاب السياسية الثلاثة المشكلة حديثا في بث مباشر على شاشات قناة (تي.آر.تي) بالأبيض والأسود في تلك الفترة.
جرى آخر حوار على شاشات التلفاز بين القادة السياسيين في تركيا بين كل من رجب طيب أردوغان، رئيس حزب العدالة والتنمية الذي تأسس قبل انتخابات 3 نوفمبر 2002 وكان ممنوعا سياسيا وقتها، ودنيز بيكال، رئيس حزب الشعب الجمهوري آنذاك، والذي أمر بحله الانقلابيون في 12 سبتمبر وأعيد افتتاحه لاحقا.
لذلك لا توجد في ذاكرة جيل 2002 الذي يعيش تحت قيادة حزب العدالة والتنمية وأردوغان منذ 17 عاما ذكرى واحدة تتعلق بضرورة أن يتحاور السياسيون أمام الشعب، ويصرحوا بما وعدوا بالقيام به لصالح المدن التي يترشحون عنها وأن ينتقد بعضهم بعضا.
رفض أردوغان رئيس حزب العدالة والتنمية ورئيس الجمهورية دعوات الحوار والنقاش التي وجهها إليه قادة المعارضة بالظهور مباشرة أمام شاشات التلفاز قبل كل انتخاب حتى الآن، قائلا “لستم محاوري، ولن أسمح لكم بتحقيق مكاسب سياسية من خلالي”.
بن علي يلدريم مرشح حزب العدالة والتنمية قال إنه شغل لعدة سنوات منصب وزير، ورئيس وزراء، ورئيس برلمان، وبالتالي فإن إمام أوغلو “ليس ندا له ولا جديرا بمخاطبته”، ورفض طلبات إجراء حوار على شاشات التلفاز قائلا “نحن نتحدث أمام الأمة بالفعل، فعن أي شيء سنتحدث حين نظهر على شاشات التلفزيون”.
لكن، بعد قرار اللجنة العليا للانتخابات بإلغاء انتخابات بلدية إسطنبول وإعادتها في 23 يونيو 2019، والذي لا يزال محل نقاش وليس له أي مبرر ملموس، فقد تغير المشهد بالكامل؛ إذ غيّر أردوغان وحزب العدالة والتنمية الذي خسر الانتخابات في 31 مارس من الأسلوب في الخطاب أولا، ثم غاب عن الساحة أردوغان الذي كان خطط لعمل لقاءات جماهيرية في 39 مركزا. ومنذ التصريحات الأخيرة التي أدلى بها أمام الجامع عقب الخروج من صلاة العيد في 5 يونيو وحتى اليوم لم يظهر على الشاشات ولا على الساحة.
وكان يلدريم قد ردَ في البداية على دعوة أكرم إمام أوغلو بالمواجهة مباشرة على شاشة التلفاز بأن قال “لا أستطيع اتخاذ قرار بشأن هذا بمفردي”، ثم وافق لاحقا على التحاور في بث مباشر بإذن صادر من أردوغان.
وبعد مفاوضات بين أركان حزب العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري تم الاتفاق على عقد الجلسة المفتوحة بين يلدريم- وإمام أوغلو مساء 16 يونيو بإدارة إسماعيل كوجوك كايا مقدم برنامج جيل الصباح في قناة فوكس، أكثر القنوات التي عانت منها السلطة قبل أسبوع واحد من الانتخابات.
هذا الحوار المباشر الذي سيجرى لأول مرة بعد 17 سنة سيكون سابقة من نوعها بالنسبة “لجيل حزب العدالة والتنمية” الذي فتح عينيه على أردوغان وحزب العدالة والتنمية كي يتصور ويدرك معنى مفاهيم “الديمقراطية والحوار الديمقراطي”.
وبالطبع “الديمقراطية بالنسبة لنا تمثل قطارا كهربيا ننزل منه عندما نصل إلى محطتنا…”، الأمر كذلك أيضا بالنسبة لتركيا التي تعيش منذ 17 سنة تحت إدارة أردوغان القائل “بوسعي التخفي في صورة قسيس كي أصل إلى هدفيّ”.
الواقع أنه وإن وُصف قبول مرشحي أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحوار مع المعارضة وخصومهم السياسيين وجها لوجه على الشاشات، وهو ما لم يدرجوه في جدول أعمالهم منذ 17 عاما، بأنه ضوء بسيط في نهاية النفق المظلم لصالح السياسة الديمقراطية، إلا أن العامل الرئيس مختلف.
بعد الهزيمة التي مُني بها أردوغان الذي أخذ زمام المبادرة كلها في الميادين في 31 مارس، والهزيمة الثانية والأشد التي سينالها في إسطنبول تجعل زعامته السياسية موضع نقاش وتساؤل في البلاد وفي العالم وداخل حزب العدالة والتنمية على حد سواء، وهي في طليعة هذا القرار.
من الواضح أن مثل هذه النتيجة التي تبرر وتسرع عمليات تشكيل الأحزاب الجديدة لأجنحة أحمد داود أوغلو- علي باباجان داخل حزب العدالة والتنمية ستلحق أضرارا جسيمة بالزعامة السياسية لأردوغان، وتحدث انشقاقات عن حزب العدالة والتنمية وتحللا في قاعدته الحزبية.
لهذا السبب، فإن أردوغان الذي فضّل التراجع عبر تحميل جميع الفواتير السياسية لبن علي يلدريم بطريقة أو بأخرى، اضطر إلى التخلي عن يلدريم وأن يقول له ابحث لنفسك عن حلٍّ.
إن طرح أسماء ليست من “الصحافة الموالية أو المبايعة” من أجل إدارة هذا الحوار مثل أوغور دوندار وديدم أرسلان ييلماز وفاتح برتقال، والاتفاق أخيرا على إسماعيل كوجوك كايا صورة مخزية لوسائل إعلام السلطة التي سيطر عليها أردوغان وسلطة حزب العدالة والتنمية عبر نسجها وخياطتها عقدة تلو عقدة.
إن مرشح حزب العدالة والتنمية يلدريم وأعضاء الحزب وأردوغان نفسه، يدركون عدم مصداقية وسائلهم الإعلامية ولا مصداقية صحافييهم. إنه ينحي جانبا كلامه الذي قاله قبل بضعة أشهر بشأن فاتح برتقال مقدم الأخبار في قناة فوكس، “هل هو برتقال أم أرنج، الزم حدودك، فإن لم تلزمها انهال هذا الشعب عليك ضربا”. ثم اضطر للموافقة على أن يدير الحوار مقدم آخر في القناة نفسها.
ونظرا لأنه من المعروف أن تصنيفات البرامج التي يتم تقديمها مع صحافيين مكلفين بطرح أسئلة سابقة الإعداد تنحدر قيمتها، فإن الحاجة إلى الظهور مع صحافي معروف على الأقل بأنه “محايد” يفرض نفسه على حزب العدالة والتنمية.
والجدير بالملاحظة أن صحافيين؛ واحد معارض وآخر مقرب من حزب العدالة والتنمية مثل يلماز أوزديل وفهمي كورو، حذرا في نفس اليوم عبر عموديهما من أنه قد يتم ليلة البث المباشر إطلاق رسائل دورية وحملات دعائية وفيديوهات غير واقعية وتحريفات في وسائل التواصل الاجتماعي.
وتستهدف هذه الرسائل أساسا إمام أوغلو الذي يأتي في طليعة استطلاعات الرأي حتى الآن. وقال أوزديل وكورو إنه من خلال نموذج روسيا وأميركا والغابون أنه يمكن تنظيم حملة دعائية من قبل خلايا حزب العدالة والتنمية الإلكترونية “للاستنزاف والتشويه”.
ذو الفقار دوغان – كاتب في الشأن التركي