في خلاف أوردوغان مع حليفه الأمريكي لا يبدو أنّ ثمة سوء تفاهم بريئ حول المنطقة الآمنة بقدر ما هناك تماطل وعدم وفاء ترامب بالتزاماته الموضوعية إزاء الحليف الأساسي في الحرب على سوريا، وفي هذا الإطار نصدّق أوردغان فيما ذهب إليه، لكن لهذا الحديث بداية وسياق وغايات، فخلاف أوردوغان مع ترامب حول تدابير الخطّة هو خلاف بين قوة عظمى ومحور إقليمي، فاستقلالية القرار هنا لا موضوع لها لأنّ أوردوغان وجد نفسه يدفع فاتورة الحرب على سوريا.
لقد أعلنت واشنطن عن نية انسحاب جنودها من منطقة شرق الفرات وصرح ترامب بأنّه لم يجر أي توافق على الخطة لا في الظاهر ولا في المضمون وأكد أيضا أنّه لن يكون طرفا في هذه العملية التي يلوح بها أوردوغان ولكن واشنطن أكدت على أنّها ستكون إلى جانب القوات الكردية التي اعتبرتها حليفا في الحرب على داعش في المنطقة، والخلاف واضح حيث أوردوغان يعتبر قوات سوريا الديمقراطية جماعة إرهابيّة، بل لقد هدد ترامب بأنّ أي عمل منفرد في مواجهة هذه القوات الكردية سيجعله يدمّر الاقتصاد التركي.
ليس هناك مأزق أكثر من هذا وقع فيه أوردوغان الذي فقد البوصلة نتيجة مغامراته في الحرب على سوريا، وهذا سيجعله عاريّا أمام سوريا وحلفائها الذين يرفضون العملية العسكرية التركية في شرق الفرات. لقد حشر أوردوغان وهو بالنتيجة لا يملك القرار المستقل للقيام بشيء ضدّ أمريكا إلاّ إذا طرق باب الروس، وفي كل الأحوال سيكون هو وحزبه من سيخسر الرهان، ولكن بما أنّه عنيد فسيرضخ للروس والإيرانيين في العودة إلى اتفاقية أضنة، وربما قد تنشأ هذه الرغبة بعد فوات الأوان.
إن خطة المنطقة الآمنة هي تماما خطّة احتلال، ومحاولة التخلّص من تبعات الحرب على سوريا بممارسة عدوان على دولة ذات سيادة، ومع ذلك بغضّ النظر عن الحرب الشاملة التي تنتظر أوردوغان في شرق الفرات والتي ستكون سببا في الإطاحة به هي خطّة مكلفة، فإذا ما واجهت تركيا حصارا وعقوبات كما وعد ترامب فلن تكون في وضع اقتصادي يسمح لها بتمويل خطة تهدف إلى تغيير ديموغرافي بشرق الفرات؟ وكيف تستطيع تأمين خلال وقت وجيز تحت طائلة تلويح الوحدات الكردية بحرب شاملة وتهديد أمريكي بتدمير اقتصاد أنقرة ناهيك عن موقف الروس وإيران ودمشق، وكيف يستطيع أوردوغان تحقيق خطة كهذه في ظلّ الحرب المتوقعة بعمق 32 كلم وعرض 450كلم؟
وتقضي خطّة أوردوغان إإلى إنشاء 200 ألف مبنى سكنيا لاستيعاب أكثر من مليون سوري لاجئ في تركيا وهذا كمرحلة أولى، كما أن المخطط يتضمّن إنشاء 140 تتسع كل منها لـ5000 شخص وكل قرية تضم 1000 منزل مؤلف من 4 غرف بمساحة متر مربع وكل منزل يضم حضيرة خاصة، وكل قرية تضم مسجدين ومدرسة بسعة 16 قاعة دراسية ومركزا شبابيا وصالة رياضة مغلقة، وإنشاء 10 مدن صغيرة تتسع كل منها لـ 30 ألف شخص، وكل مدينة تضم 6000 منزل من 3 أو4 غرف على مساحة 100 متر مربع، وفي كل مدينة صغيرة مسجد مركزي و10 موزعة على الأحياء و8 مدارس بسعة 16 قاعة دراسية وثانوية وصالتين رياضيتين و5 مراكز للشباب وملعب كرة قدم مصغر و4 ملاعب أخرى صغيرة في الأحياء ومجمعا صناعيا صغيرا بالإضافة إلى مستشفيين بسعة 200 سرير إضافة إلى 9 مستشفيات بسعة 10 أسرة موزعة على تلك المدن. وحسب المعطيات المذكورة في وسائل الإعلام “سيبلغ مجموع الوحدات السكنية في المنطقة الآمنة 200 ألف وحدة، يتم تشييدها بتمويل أجنبي، حيث تقدر ميزانية المشروع بنحو 26 مليارا و650 مليون دولار تقريباً”، كما ذكرت المصادر نفسها بأنّ “مجموع مساحة القرى والبلدات السكنية سيقدر بنحو 92.6 مليون متر مربع، فيما ستبلغ مساحة الأراضي الزراعية التي ستوزع على سكان القرى نحو 140 مليون متر مربع آخر”.
وتكمن أهمية هذه التفاصيل التي عرضناها هنا بالأرقام على مفارقة موقف أوردوغان من المشكلة السورية، ويبدو أنّ أوردوغان حتى لو نفّذ هذه الخطّة لن يسترجع الأموال السورية التي تمّ تهريبها خلال هذه الحرب وتفكيك 1500 مصنع للنسيج والأقمشة والملابس الجاهزة من حلب تمّ نقلها في بدايات الحرب إلى تركيا ناهيك عن نقل البترول من سوريا في المراكز التي سيطرت عليها النصرة والجيش الحر. ومع ذلك فإنّ هذه إنجازات سلام وليست إنجازات خطة حرب،لأنّ تنفيذ مثل هذا يتطلب احتواء كل التهديدات الكبرى والصغرى لا سيما وأنّها خطّة مرفوض من كلّ الأطراف. وكان أوردوغان لو أنه ساهم في حلّ الأزمة السورية من البداية حين كان يستعجل الدولة السورية بحلول اقتصادية على الفور وخلال أيّام، بينما كان يخطط لتمكين حلفائه من سوريا وفتح الحدود للاجئين لتكون أيضا طريقا سيارا للمسلحين. كان أوردوغان قد فتح حدوده للاجئين وشجع حركة اللجوء وأنشأ مخيمات للجوء قبل أن تبدأ الحرب في سوريا، ولكنه كما غيره لم يكن يدرك كما قلنا مرارا منذ بداية الحرب بأنّ ارتدادات كل هذه التدابير ستكون على تركيا حتما، غير أنّه اليوم يرى نفسه يتحمّل وحده مشكلة اللاجئين قبل أن يغلق الملف السوري
وهذا مؤشّر على أنّ سوريا انتصرت على المخطط التخريبي وأنّ انعكاسات الحرب بدأت تظهر في الطرف التركي. ولم يتحمّس أوردوغان للمنطقة الآمنة حين كانت في يد داعش ولكنه الآن يستعجل العملية العسكرية لتنفيدها بشكل منفرد حين بدت في يد الوحدات الكردية. وهذا حتى في أسوأ الحالات سيكون في صالح سوريا حيث انتهى الأمر بالتفاف الحبل الكردي على أوردوغان.
من جهة أخرى لم يقدم ترامب حلاّ لا لأوردوغان ولا لحلفائه الأكراد ولا لأيّ جهة أخرى، بل هذا كما يبدو لكثير من المراقبين سيؤدي إلى حمام دم واضطراب في المنطقة كما ذهب رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي إليوت انغيل الذي اتهم ترامب بأنه عرض الأمن القومي الأمريكي للخطر من أجل إرضاء أوردوغان، كما أكّد على أنّ “الولايات المتحدة لن تلتزم بتعهداتها ولا يمكن الوثوق بها”.
ويبدو أنّ أصواتا كثيرة من داخل الولايات المتحدة تحثّ على حماية الأكراد باعتبارهم حلفاء، وبأنّ آلاف الأسرى من داعش لدى الأكراد سيكون مصيرهم المجهول، فتعقيدات ما بعد العملية العسكرية المفترضة ستكون كبيرة ولن تكون العملية التي يلوح بها أوردوغان أيّا كان الأمر نزهة، بل ستضاف إلى جملة المغامرات التي قام بها أوردوغان وجعلت مصيره على كفّ عفريت..
ادريس هاني