تتقلب منطقتنا منذ قرون وخصوصا في آخر مائة عام في دوامة احداث سياسية وعسكرية وثقافية واجتماعية، وقد كان من ابرز معالمها تشكل الدول وتحولها من الاحتلال الى الاستقلال، حيث تلاحق الاعتراف بها في عصبة الامم المتحدة ثم جمعية الامم المتحدة، ومع هذا الاستقلال ظل العامل الخارجي بتمظهرات المختلفة (المباشرة وغير المباشرة)، متواجدا وفعالا، بل ارتبط حاضر ومستقبل المنطقة به، ومن اجل ان يؤمن لنفسه موقعا متقدما في صيرورة المشهد، اختلق عدة مشكلات ومولدات كامنة للتأثير وتحريك مسارات الامور بناء على اساس مصالح هذا التدخل، فكانت مشكلات الجغرافية والديموغرافية والثقافة والاقتصاد والامن تتناسل بشكل مدروس ومنتظم، الامر الذي ابقى المنطقة اسيرة تلك المشكلات وتحدياتها، وفي ذات الوقت كان ولا يزال معظم حكام وملوك وانظمة المنطقة لا تمثل شعوبها ودولها بشكل حقيقي، وتستند شرعيتها الى اسانيد خارجية وعلاقة تخادمية مما جعل معظم الحكومات والانظمة تعين العوامل الخارجية على بقاء وتنامي اثرها، وليست مستعدة لفواتير الاستقلال الحقيقي، وتلقي بثقلها (قهرا وتنكيلا) على جمهورها من اجل اخضاعه وتدجينه للتماهي مع الصيغة المطلوبة من قبل المؤثر الخارجي.
مثل ايجاد اسرائيل احد اكبر واعقد التحديات التي لا تزال تشغل المنطقة منذ مائة عام، وقد تمحورت حركة المنطقة حول هذه المشكلة وتداعياتها.
قرار الايجاد تضمن صياغة كلية مفادها (دمج المنطقة في ترابط كلي توافقي تكون فيه مصالح وامن اسرائيل نقطة المركز ومحل الارتكاز لتشييد بناءات المنطقة على ان تكون الطاقة ومصادرها مؤمنة بالشكل الذي يجعل تدفقها منسابا وآمنا).
جربت القوى الراعية لهذا الايجاد وفي مقدمتهم امريكا، عدة الصياغ لتحقيق هذا الادماج، فكانت الأيدلوجيا هي النموذج الاول لهذا الادماج، حيث كان صراع الشرق والغرب والشيوعية والرأسمالية، وانقسمت المنطقة عبر مخطط دراماتيكي الى معسكرين توجها لخلق حالة تآكل ذاتي تصير الى الدمج المطلوب إلا ان هذه الصيغة لم تعد نافعة وخفت نجم الايدلوجيا تدريجيا ولم يصبح مناسبا لاستدامة الصراعات، فطرحت الصيغة الثانية والقائمة على المصالح السياسية بغض النظر عن الاختلاف الايدلوجي، وقد اخذت هذه الصيغة مأخذها من المنطقة من خلال اختلاق حروب المصالح وصراعات التنافس واقصى ما انتجته اتفاقية كامبديفد التي كسرت حاجز الممانعة مع اسرائيل وطرحت الصلح والتصالح معها ممكنا ومتاحا، بل بحسبها ضرورة مصلحية.
من جديد لم تعد تلك المصالح والتنافس عليها يحرك صراعات المنطقة بالشكل المناسب، لذلك تم التحول لخيار جديد تمثل بمتطلبات الامن، والذي اشتغل على العاملين الامني والعسكري، وبه انخرطت المنطقة في حروب داخلية وسباق تسلح ارهق الميزانيات واوقف التنمية واستنزف الاموال ودفع باتجاه حمى التملك النووي والصواريخ البالستية ثم حروب الاثنيات والاقليات والصراعات القومية والمذهبية ثم جيل حروب الجماعات المسلحة والارهاب ومع ذلك لم تستطيع هذه الصياغة دمج المنطقة وايجاد صيغة نهائية تحقق الرضى والتراضي بالصيغة المطلوبة.
بشكل مفاجئ للبعض وغير مفاجئ للمتابع الراصد، قررت امريكا ترامب ان تتخلى عن المنطقة وعن حلفاء تقليديين، فالسعودية الاعز على قلب ترامب تم خذلانها في احوج ساعاتها، فبلعت ضربة ارامكو وامور اخرى، وهكذا يتصاعد هذا التخلي عن قسد وحزب العمال وتركيا والصراع في سوريا واليمن والاوضاع في العراق بدعوى ان امريكا غير مستعدة لتحمل فواتير اكثر وان امريكا دفعت للجميع بدون جدوى وخسرت في الشرق الاوسط ما يقارب ثلاثة ترليون دولار او اكثر وانها منطقة صراعات لا جدوى منها.
ترامب الرئيس التاجر والامريكي الاوضح والاقدر على خلق ادماج فعال يدرك جيدا انه ترك في المنطقة ما يكفيها من المحن والمشاكل التي كانت امريكا وحلفائها معمل تصنيعها الاوحد والاهم، وهو يدرك جيدا ان اصوات الاستغاثة سوف تأتيه حتى ممن لم يستغيث به من قبل جراء تداعيات فوضى وانصاف الفوضى وحالات الدولة المشلولة، ليعود الى المنطقة بفواتيره التي يحددها باختياره ورغبته.
الصياغة الجديدة التي توصلت لها ابداعات العباقرة ودهات التخطيط، التي تستطيع ادماج المنطقة في اطار كلي تكون فيه اسرائيل آمنة وفاعلة بل ومركز الفعل، وتكون الطاقة ومصادرها والمصالح الكبرى مؤمنة ومضمونة.
هذه الصياغة تعتمد الاقتصاد والمال كمحور ارتكاز لترتيباتها، وستكون الادبيات الحاكمة في هذه الاوضاع هي ادبيات السوق بالمفهوم الترامبي القائمة على حدود معينة للربح والخسارة، ومن اجل اجراء التشطيبات النهائية لهذه التسوية لا بد من تحميل اطراف كلفة البضائع غير المباعة والتالفة والموديلات القديمة التي لا اقبال عليها والتي عبث بها الزبائن ولم يشتروها، والتي تم انتاجها دون ان يكون لها طلب، وتتسع فواتير الكلف ليدفع الجميع بالقدر الذي يجعلهم رهيني تسوية ايدلوجية سياسية امنية عسكرية اساسها ومرتكزها المال والاقتصاد.
لا جدال في ان تظاهرات الاول من تشرين الاول منطلقها الاساس المطالب الحقة ومبعثها هو تراكم الاوضاع السيئة وسوء ادارة السلطة والثروة، والتي خلقت تفاوت طبقي مقيت سحق الطبقي الوسطى والحقها بالفقيرة لتتسع تلك الاخيرة في ظل ارقام فلكية للفساد وهدر المال العام وسوء الادارة، والى جانب ذلك كله بقاء كيان الدولة معلولا وسيادتها منقوصة وامنها مضطربا، مما خلق ذرائع كافية ومشروعة لتاجيج حركات احتجاجية بمنطلقات مختلفة.
خلقت التظاهرات الاخيرة ارباكا وتشويشا للعلم والعمل ولا تزال محل انقسام كبير حول حقيقة اهدافها ومشروعيتها والجهات الرئيسة المحركة لها، لذلك تفاوت الوصف بين المؤامرة والثورة الشعبية، ولا يزال هذا الانقسام يغذي تشظي كبير في المواقف من المحتمل ان تفتح الباب لنهايات مرعبة مع تجدد التظاهرات كما هو الراجح.
ومع التأكيد على شرعية التظاهرات واهميتها وخطورة المرحلة التي تمثلها، لا بد ان يؤخذ بعين الاعتبار وبأعلى درجات الاعتناء (المتظاهرون والدولة بكل تشكيلاتها) ما تمت الاشارة اليه
الكاتب والباحث : نعمه العبادي