حلت ذكرى وعد بلفور هذا العام وقد دخلنا المئوية الثانية لقرار وزير خارجية بريطانيا عام 1917 منح فلسطين لليهود إبان الحكم العثماني للمنطقة وخضوع فلسطين وقتها للانتداب البريطاني. كان الوعد بيانا من حكومة بريطانيا لزعماء اليهود، وتحديدا رسالة من آرثر بلفور للورد روتشيلد تتعهد فيها الحكومة البريطانية بتسهيل إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. كان ذلك في وقت تخضع فيه أغلب المنطقة لاحتلال تركي (الولاية العثمانية على أغلب دولها) واحتلال أوروبي (انتداب أو وصاية بريطانية واحتلال أو انتداب فرنسي..). لذا ظللنا نردد أن “من لا يملك أعطى من لا يستحق” لأنه لم يكن لنا كعرب حول ولا قوة فتصرف الآخرون في أرضنا وسيادة أوطاننا. هذا قبل أكثر من مئة عام، أما ما يفعله العرب بأنفسهم منذ ما بعد الاستقلال؛ أي منذ أكثر من نصف قرن، فيصعب إلقاء تبعاته على الاستعمار فقط رغم أن المنطقة كانت وتظل مستهدفة.
ليس القصد هنا الحديث عن ما يشبه وعد بلفور فيما يخص فلسطين، فبعد نكسة 1948 توسع الاحتلال إما لعدم وجود رادع عربي أو بحروب مع العرب انتهت باحتلال أراضيهم كما حدث في 1967 حين احتلت أجزاء من سوريا ومصر والأردن. ففي النهاية، وباستثناء سوريا التي ما زال جولانها محتلا، سوى بقية العرب أمورهم مع الاحتلال واستعادوا القدر الأكبر من أراضيهم بشكل أو بآخر. وإن تضمن ذلك اتفاقات تتضمن وعودا أيضا لكنها تبقى أقل من وعد بلفور وتأثيره التاريخي. إنما بعيدا عن فلسطين المحتلة تجد أن قوى أخرى إقليمية حققت بعض مطامعها في الأرض والنفوذ بما يكاد يشبه وعد بلفور. وللأسف تظل سوريا صاحبة النصيب الأكبر من بلفورات العرب المعاصرة، ولا يقتصر احتلال أجزاء منها والتغول على سيادتها على الاحتلال في فلسطين، بل كان للقوى الإقليمية نصيب منه. فعلى سبيل المثال، ضم الترك لواء الأسكندرون وهو جزء من سوريا ـ حتى بترتيبات سايكس ـ بيكو الاستعمارية (بلفور الأوسع).
وعادت تركيا ـ أردوغان قبل نحو خمس سنوات لتحتل أجزاء من شمال غرب سوريا، منتهزة الحرب التي مزقت هذا البلد العربي وفي ظل صمت عربي تام. وها هي الآن مجددا تكمل مطمعها باحتلال شمال شرق سوريا بعدما كادت أن تكون “ضمت” شمال الغرب المحتل إليها ليصبح مصيره أقرب إلى مصير الأسكندرون. وهناك موافقة أميركية ـ روسية ـ إيرانية ـ عربية (تقريبا) على ذلك، وكأنها حفلة “بلفور جماعي” لمنح تركيا أجزاء أخرى من سوريا. وقبل ذلك ترك العرب ـ أو شاركوا ولو “بالصمت العاجز” ـ العراق يضيع بين احتلال أميركي ـ بريطاني ونفوذ إيراني واستقطاع كردي حتى ضاع ما تبقى من هذا البلد العربي متفرقا بين قبائل “بلفور” من عرب وعجم. وربما يمثل العراق حالة فريدة في مآسي تنازلات العرب في العقود الأخيرة ولا يشبه وضعه الآن أكثر من ليبيا. ولمن لا يعرف، نتيجة عدم الاهتمام الإعلامي بهذا البلد العربي الشمال إفريقي الذي يتمزق حربا وانتهاكا لسيادته، فإن تركيا تقريبا تسيطر على أجزاء من ليبيا (وإن عن طريق وكلاء محليين حتى الآن كما في مصراته مثلا) وبتوافق شبه دولي. لكن الأساس طبعا هو السكوت العربي على طريقة “بلفور بالتفريغ السلبي”.
وقبل ذلك وافق نظام حكم الإخوان في السودان على سلخ نصف البلاد الجنوبي بينما الميليشيات في غرب السودان أقرب لتشاد منها للخرطوم. صحيح أن الحكم الجديد بعد الإطاحة بالإخوان يسعى لتفاهم مع الميليشيات، لكنها حتى الآن أقرب لتسويات ما بعد بلفور في فلسطين منها لاستعادة هذا البلد العربي الإفريقي الكبير سيادته على كامل أراضيه. وللأسف لا يتصور أن بلفورات العرب تنتهي عند هذا الحد، فما يشهده كثير من دول المنطقة وتكالب القوى الإقليمية والدولية التي تجد لنفسها فرصة لاقتناص المغانم لا يبشر بخير. ولم يعد الأمر بحاجة لآرثر بلفور، بل إن وكلاء محليين في دول ما بعد الاستقلال عن حكم الامبراطوريات المنهارة يقومون بذلك الدور قصدا أو عن ضعف وسلبية.
ويبدو وضع المنطقة، وبمفارقة تدعو للسخرية المرة، وكأنها استمرأت استعمارها ولم تتمكن من الاستقلال التام. وبعد انهيار امبراطوريات أوروبا كان الركون لامبراطورية جديدة آتية من وراء الأطلسي، لكن الولايات المتحدة تختلف في حسابات مصالحها عن سابقاتها. وحين أخذت أميركا في “فك الارتباط” المباشر بالمنطقة قبل نحو عقد من الزمن تفسخت جوانب كثيرة من المنطقة وتمكن قوى إقليمية محيطة مما تصوروا أن الأميركيين تركوه خلفهم. وفي كل هذا يحصي العرب تكرار ما أحدثه وعد بلفور قبل أكثر من مئة عام، بينما أجزاء من عالمهم العربي تقتطع وأخرى تنتهك وثالثة تحرق حتى تذهب بثمن بخس. مع ذلك يبقى هناك دوما أمل في أن يفيق العرب على أن زمن الامبراطوريات انتهى وليس للمرء إلا ما يأخذه بيديه أو يفقده بضعفه وهوانه، لعل من بين كل هذا التراجع المحبط يبرز من بين ركام المنطقة عنقاء تستعيد ما تناثر منها بأيدي صيادي الفرائس بوعود أو باستكانة.
د. أحمد مصطفى أحمد