يتفق مراقبون على أنّ الدراما التركية، التي لا تتجنّب تشويه وتزوير حقائق تاريخية معروفة، تُعتبر من أهمّ أدوات الرئيس رجب طيّب أردوغان لتسويق نظامه وسياساته وإسلامه السياسي، ليس على المستوى الداخلي وحسب وإنما على الصعيد الإسلامي ضمن توجهات وطموحات أردوغان للزعامة خارج بلاده.
وفيما بدأت بعض الدول العربية، وفي مُقدّمتها السعودية، تعديل مناهجها الدراسية بهدف كشف بشاعة الاحتلال العُثماني الذي كان يوصف من قبل بـِ “الفتح”، يبدو أنّ هناك صحوة عربية على صعيد الدراما التاريخية بعد هيمنة تركية واضحة في السنوات الأخيرة، وهي الصحوة التي أعقبت مقاطعة عربية للدراما التركية بدءاً من العام الماضي.
وفي هذا الصدد، يأتي المسلسل التاريخي “ممالك النار” الذي تبدأ قناة إم.بي.سي السعودية بثّه يوم الأحد القادم، كمحاولة عربية جادّة تواجه توغل الدراما التركية واستئثارها بساحة الأعمال التاريخية دون منافسة.
ويتضمن العمل قراءة غير تقليدية للأحداث الزمنية، يُكملها إبهار بصري متميز يقف خلفه فريق عمل أجنبي محترف.
والمسلسل من إنتاج شركة “جينو ميديا” التي يرأسها المنتج الإماراتي ياسر حارب، وتمّ تصويره في تونس. ويُقدّم المواصفات البصرية اللازمة للمنافسة بمؤثرات مبهرة ومعارك ضخمة وشخصيات تاريخية مُركبة، ساهم في صناعتها المخرج البريطاني بيتر ويبر، الذي استعان بفريق متعدد الجنسيات في صناعة الديكور والملابس والمكياج من إيطاليا وكولومبيا وأستراليا.
ويُشارك في بطولة مسلسل “ممالك النار” مجموعة من كبار الممثلين العرب، منهم رشيد عساف (سلطان المماليك قانصوه الغوري)، خالد النبوي (طومان باي)، منى واصف (أم الخليفة)، محمود نصر (سليم الأوّل)، عبد المنعم عمايري (السلطات بايزيد)، ديمة قندلفت (مريم)، كندة حنا (نلباي)، وغيرهم.
ويقول كاتب سيناريو المسلسل المؤلف المصري محمد سليمان عبدالمالك: إنّ مسلسله حجر زاوية في معركة شاقة لبناء وعي حقيقي للمواطن العربي نحو تراثه وماضيه، ومواجهة تسويق الدراما التركية للشخصيات العثمانية بصورة ملائكية تخالف الحقيقة، فـ”الفتح العثماني” لم يكن إلاّ غزوا واحتلالا تضمّن مجازر ارتكبتها القوات الغازية في حق الشعوب العربية التي خضعت لولايتها.
ويرى أنّ كتّاب الدراما العربية اتبعوا منطق السلبية إزاء التمدّد الفني التركي الذي لا ينكر أحد أنه جيد على مستوى الصناعة، وحينما انتبهوا للمخاطر اقتصر سلوكهم على المقاطعة فقط.
ويرى مؤلف عمل “ممالك النار”، أنّ إقبال المشاهد العربي على الدراما التركية سببه غياب البديل، متوقعاً أن يثير مسلسله ضجة أكبر بعد عرض حلقاته الأولى، فحال نجاحه جماهيريا سيفتح شهية المنتجين العرب على تبني المزيد من الأعمال الدرامية التاريخية، ما يهدّد المعادلة التي اعتمد عليها الأتراك في الغزو الفني للمنطقة العربية، والعائد المالي الكبير من تسويق أعمالهم والذي يقدر بنحو 350 مليون دولار.
ويقول عبدالمالك، إنّ مصر شهدت في العصر المملوكي نهضة في الإنشاء والتعمير ببناء الجوامع والمدارس والحمامات الشعبية والقلاع، على عكس الحكم العثماني الذي فرّغ القاهرة من أفضل العمّال والحرفيين في نحو 53 حرفة بعد نقلهم إلى إسطنبول لتوطين صناعاتهم بها.
وركّز العمل أيضا على المجازر وأعمال السلب والنهب التي قامت بها قوات الانكشارية (طائفة عسكرية من المشاة العثمانيين) بحق أهل الشام، ما خلّف رابطة فكرية ونوعا من المقارنات مع الهجوم الذي تشنه القوات التركية على الأكراد في سوريا.
وتتزايد في مصر ومعظم الدول العربية مشاعر الكراهية للرموز العثمانية التركية بسبب مواقف الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان المؤيدة لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، والتي باتت تُصنّف منظمة إرهابية في البلاد.
ورسم مسلسل “حريم السلطان” التركي في السنوات الماضية، تخيّلا أبعد بكثير عن الحياة الخاصة للسلطان العثماني سليمان القانوني، بتقديم صورة مثالية للدولة العثمانية التي استمرت أربعة قرون، في محاولة لإعادة تسويق الخلافة عربيا، وبالفعل خلقَ حنينا لها عند البعض بعد تقديمها كدولة قوية تدافع عن الإسلام وينصاع لها العالم.
أما مسلسل قيامة أرطغرل التركي فقد تحوّل إلى منصّة دعائية لحزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم في البلاد.
وتتحدث مواقع اعلامية كيف أنّ السلطة الحاكمة في تركيا توجِّه سيناريوهات مسلسل أرطغرل طبقا لسياساتها. وعلى سبيل المثال فقد تمّت إضافة مشهد إلى المسلسل يلقي فيه البطل أرطغرل خطابًا يتماشى مع الأجندة السياسية للحكومة الحالية، ويُضاهي تلك الخطابات التي يلقيها أردوغان من شرفة المقر الرئيس لحزبه بعد كل انتخابات.
على صعيد آخر، بدأت المملكة العربية السعودية تعديل مناهجها هذا العام، في خطوة وصفها خبراء تربويون بالنقلة النوعية بعيداً عن أيّ تفسيرات وأبعاد سياسية، فيما انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي على نحوٍ واسع بعض الصور لتعديلات حديثة في المناهج الدراسية تتعلق بنشأة الدولة العثمانية وتصفها بأنها “غازية” بعد أن كانت تُطلق عليها دولة “الخلافة العثمانية” في المناهج السابقة.
وكشفت تلك المناهج عن “تعذيب العثمانيين لأئمة الدولة السعودية الأولى وتهجير سكان المدينة ومنطقة الأحساء”.
في الواقع، وفي إحدى مراحل التاريخ الطويلة كانت تركيا أشد اقتراباً من الوطن العربي، لكنّه اقتراب تخريبي مُدمّر، وذلك في أثناء سيطرة الدولة العثمانية على مقدرات العرب لمدة تزيد عن أربعمائة عام، لم يُقدّم خلالها العثمانيون أيّ مُساهمة في نهضة المناطق العربية آنذاك، وكان همّهم الوحيد طلب المال والولاء والطاعة.
وقد فرض العثمانيون على العرب عزلة كاملة لقرون طويلة عن الشرق، وعن الغرب الذي كان يبحث مع بدء الغزو العثماني للدول العربية، عن الخروج من عصور الظلام والجهل لمواكبة التطوّر الحضاري للعرب والمسلمين.
يُذكر أنّ العلاقات التركية- السعودية مرّت منذ العام الماضي بمرحلة توتر شديدة نتيجة استثمار أنقرة السياسي السلبي في عملية قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول.
وتزداد المخاوف التركية اليوم، رسمياً وشعبياً، على نحوٍ كبير من تسارع وتيرة العقوبات السعودية التي يتم فرضها تدريجياً على أنقرة سواء بشكل علني أو سرّي، والتي شملت حتى اليوم مجالات الاستثمار العقاري والسياحة والنقل، فضلاً عن مقاطعة المسلسلات التركية التي تمثل ترويجاً لسياسة حزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم.
مواقع الكترونية