مخرج وممثل استشرف مُبكرا ما سيؤول إليه الوضع العربي صادحا “صح النوم”.
يرى جمع من أهل النقد الفني في سوريا أن تاريخ الحركة الفنية في البلد ينقسم إلى مرحلتين، ما قبل الفنان نهاد قلعي وما بعده. فقد أسهم بدور كبير في تأسيس الحركة الفنية السورية. ففي عهد الوحدة السياسية بين مصر وسوريا (الجمهورية العربية المتحدة) تمّ النظر إلى وزارة الثقافة ودورها في المجتمع بشكل مؤسساتي فعّال، وكان من نتائج ذلك وجود مؤسسات ثقافية حكومية في كلا الإقليمين، الشمالي سوريا والجنوبي مصر، فوجدت فيهما مؤسسة مسرحية “المسرح القومي”، وقد وقف وراء تأسيسه الفنان نهاد قلعي وكان أول مدير لهذا المسرح البارز القائم إلى اليوم.
دمشق – لم يكن أحمد نهاد الخربوطلي القلعي، وهو الاسم الكامل للفنان السوري الراحل نهاد قلعي بعيدا عن الجو المسرحي في سوريا، وهو الذي نشأ في بيئة تحب الفن، وكان خاله، توفيق العطري، فنانا مسرحيا معروفا.
في حوار إذاعي قديم أجري مع الفنان نهاد قلعي أكد أنه أحب الفن منذ صغره، وحاول جاهدا أن يدرس الفن في مصر، فراسل السفارة المصرية في دمشق لكي يلتحق بالمعهد المسرحي في القاهرة، لكن جواب السفارة تأخر، ولما حضر الفنان المصري الشهير زكي طليمات مدير المعهد إلى دمشق، وشاهد عرضا له، وعرف مبتغاه، اتصل هاتفيا بالسفارة وطلب من القائمين عليها أن يقبلوا طلبه للدراسة في مصر.
وبالفعل، حضرت الأوراق خلال ساعات. ونتيجة للظرف المالي الصعب الذي كانت تعيشه أسرة قلعي، اضطرت العائلة إلى بيع جزء من أثاث البيت حتى يسافر ابنها إلى القاهرة.
ومن ثمة يأخذ الشاب المال ويتجه إلى سوق الحميدية لكي يحوّله إلى الجنيه المصري، ويدفعه إلى السفارة، لكنه يكتشف عند باب السفارة أن المبلغ قد ضاع. يبكي بحرقة ويعود خائبا إلى بيته بعد ضياع الفرصة.
لكن دأبه لا يمنعه من تكرار المحاولة مجددا من خلال المتابعة في العمل داخل سوريا. فانتسب إلى نادي الفنون الجميلة في مرحلة الشباب الأولى، ثم انتسب عام 1946 إلى نادي أستوديو البيرق الذي أسّسه الفنان شفيق المنفلوطي. وفي عام 1954 أسّس مع بعض زملائه في الوسط الفني، من بينهم سامي جانو وعادل خياطة وعدنان عجلوني وآخرون النادي الشرقي، والذي قدّم له أول عرض مسرحي بعنوان “الأستاذ كلينوف” ثم مسرحية “زنوبيا”. وبعد أن حقّقوا نجاحا لافتا في دمشق عرض النادي مسرحياته في القاهرة، منها “لولا النساء” تأليف سامي جانو، ومن ثم مسرحية “ثمن الحرية” للكاتب عمانويل روبلس، وحقّقت العروض نجاحا كبيرا بالقاهرة.
الولع بالمسرح
في عام 1960 نضجت فكرة أن يتأسّس مسرح حكومي في سوريا تابع لوزارة الثقافة، وعهد بالأمر للفنان نهاد قلعي الذي كان أول مدير له. وانطلق المسرح الحكومي تحت اسم “المديرية العامة للمسارح والموسيقى” وبدأ في غرفة صغيرة بوزارة الثقافة في دمشق، ثم انتقل إلى قبو في منطقة العفيف القريبة من حي المهاجرين، حيث يسكن الفنان نهاد قلعي ثم تخصّص بمكانه الحالي في ساحة النجمة بقلب مدينة دمشق.
في هذه المرحلة واجه الفنان السوري الراحل عاصفة من التحدي والصراع الفني مع بعض أقطاب المسرح من السوريين، خاصة المسرحي الشهير رفيق الصبان الذي كان عائدا لتوّه من الدراسة الأكاديمية في أوروبا، والذي كان تواقا إلى تقديم عروض مسرحية طليعية تعتمد على النصوص العالمية أمثال شكسبير وتشيخوف وغيرهما.
لكن نظرة قلعي كانت مختلفة بحيث أراد أن يقدّم مسرحا شعبيا قريبا من الناس يمكنهم من التفاعل معه بشكل أفضل، فأوجد الخطين في العمل، احتفى النقد المسرحي أكثر بعروض المسرح الأكاديمي الذي سمّي بالمسرح الجاد لاحقا، بينما كان الجمهور الأكبر حليف المسرح الشعبي كما سمّاه النقاد لفترة طويلة، وهو الصراع الفني الذي لا يزال موجودا حتى الآن.
استقطب الفنان نهاد قلعي عندما أصبح مديرا للمسرح القومي قامات فنية كبيرة، نذكر خاصة الفنان عبداللطيف فتحي، كما حرص على أن يكون لديه مسرح خاص، وهو الأمر الذي تحقّق بوجود مسرح في قلب مدينة دمشق، صغير لكنه يفي بالغرض وقد سمي باسم رائد المسرح السوري الأول أبوخليل القباني.
لم يكتف نهاد قلعي بتقديم وإدارة العروض المسرحية بل كتب للمسرح أيضا. فعندما أوجد الفنان عمر حجو فكرة “مسرح الشوك” كان الراحل من المساهمين الأساسيين فيه، حيث كان يكتب ويمثل. وهو المسرح الذي يشبه ما يسمى بـ”الكباريه السياسي” الذي يقدّم لوحات نقدية ساخرة وناقدة لأفكار وقيم اجتماعية وسياسية بالية.
وظهر من خلال هذا المسرح خط مسرحي متميز تشكل في العديد من الفرق المسرحية، منها فرقة “دبابيس” للأخوين قنوع وفرقة “الفنانين المتحدين” وفرقة هدى شعراوي وفرقة محمود جبر وفرقة ناجي جبر وغيرهم. وبعد غياب عن العمل المسرحي نتيجة ظروفه الصحية التي بدأت في التدهور، وهو في أوج عطائه، إذ لم يتجاوز، حينها، الثامنة والأربعين من عمره. عاد في عام 1974 ليشكل مع دريد لحام فرقة “تشرين المسرحية” التي قدّمت معه مسرحيتين شهيرتين، هما “ضيعة تشرين” و”غربة” للشاعر الشهير محمد الماغوط، واللتان يعتبرهما النقاد أهم مسرحيتين ساخرتين في تاريخ المسرح السوري.
بين السينما والتلفزيون
بدأ الإنتاج السينمائي في سوريا عام 1928 بفيلم “المتهم البريء” للمخرج أيوب بدري وإنتاج شركة “حرمون فيلم”. وعبر ما يقارب الثلاثة عقود لم تنتج سوريا إلّا سبعة أفلام روائية طويلة. حتى جاء عام 1964 لينجز فيلم “عقد اللولو” الذي كان بطله نهاد قلعي مع الفنان دريد لحام، وهو الفيلم الذي يعتبره النقاد نقطة انعطاف في تاريخ السينما السورية لكونه يشكل الانطلاقة الثانية والفعالة من حيث الكم الإنتاجي. وشاركت في الفيلم قامات فنية عربية عملاقة منها فهد بلان وصباح، وعرض على امتداد عام كامل في كل من دمشق وبيروت.
واستمرت مسيرة الفنان نهاد قلعي مع السينما فقدّم مع دريد لحام أربعة وعشرين فيلما كان آخرها “عندما تغيب الزوجات” عام 1982 مع المخرج مروان عكاوي.
وفي أواسط عام 1960 افتتح التلفزيون رسميا في كل من سوريا ومصر، أثناء قيام الجمهورية العربية المتحدة. وكان أول مدير له الإعلامي صباح قباني، شقيق الشاعر الشهير نزار قباني الذي كان يعرف الفنان نهاد قلعي وشاهد بعض عروضه، فاستقطبه ليقدّم أعمالا تلفزيونية في بث مباشر من جبل قاسيون حيث مقر التلفزيون السوري، وعرّفه وقتها على فنان شاب اسمه دريد لحام.
ومن هناك قدّما معا مجموعة من الأعمال كان من أهمها برنامج “الإجازة السعيدة” الذي تغير اسمه لاحقا إلى “سهرة دمشق”، وفيه ظهرت الكثير من الشخصيات الفنية السورية البارزة على غرار أبوصياح لرفيق سبيعي، ومحمود جبر وسامية الجزائري وآخرين.
وفي هذا البرنامج ظهرت أيضا شخصية حسني البورظان التي جسّدها نهاد قلعي، وعن كيفية ظهور هذه الشخصية يقول الفنان الراحل في إحدى حواراته الصحافية السابقة “كنت أقدّم شخصية حسني وكان الاسم الأول فحسب. وفي أحد المشاهد وعلى الهواء أُسأل عن الاسم الكامل، وفي ذات اللحظة ألمح عازفا موسيقيا على آلة البورظان في خلفية المشهد، فما كان مني إلّا أن قلت حسني البورظان، فأحب الناس الاسم واعتمدته للشخصية”.
علامة فارقة
في التلفزيون حقّق الفنان الراحل نجاحات هائلة خرجت من نطاق المحلية لتشمل كل أرجاء الوطن العربي. فكانت مسلسلات “حمام الهنا” و”مقالب غوار” ومن ثم المسلسل الأشهر “صح النوم”، وهو من الأعمال التي كرّست انتشار اللهجة السورية في كل أنحاء الوطن العربي في تلك الفترة قبل تطوّر الإنتاج الدرامي في بداية تسعينات القرن الماضي وانتشاره.
ويعد مسلسل “صح النوم” علامة فارقة في تاريخ الفن السوري عموما ومسيرة حياة الفنان نهاد قلعي على وجه التحديد، لكونه الأشهر والأكمل فنيا وفكريا.
وعن هذه التجربة، بيّن الفنان الراحل ياسين بقوش، في تصريح صحافي قديم “شرح لي نهاد قلعي ماذا يريد أن يقوله في العمل، وأنه يستشف به ما هو آت. فشخوص العمل يمثلون الواقع العربي تماما، فشخصية حسني البورظان هي المواطن العربي العاقل والمظلوم، بينما شخصية غوار الطوشة الرجل اللعوب الذي يريد الوصول ولو على حساب الآخرين، وياسينو يمثل شخصية الساذج البسيط المغلوب على أمره، وصاحبة الفندق فطوم حيص بيص هي هدف الجميع التي تجري الصراعات حولها وتجري الأحداث في فندقها، الذي يمثل الوطن”.
وفي هذا المسلسل أوجد نهاد قلعي، الذي هو كاتب النص، مجموعة من الشخصيات التي صارت شعبية وتراثية وتجذّرت في تاريخ الفن العربي كأبوكلبشة وفطوم حيص بيص وأبورياح وأبوكاسم وأبوعنتر وياسينو، وطبعا حسني البورظان وغوار الطوشة. ويعتبر هذا العمل، الخطوة الأولى التي رسمت ملامح ما يسمى البيئة الشامية بأحداثه التي تجري في حارة “كل مين أيدو ألو” وهو الشكل الفني الذي تكرّس لاحقا بعشرات الأعمال وصار شكلا دراميا سوريا معروفا.
لم يقف المرض حائلا دون إبداع نهاد قلعي، فبعد احتجابه القسري عن الظهور الفني فترة زمنية طويلة، كتب للأطفال في مجلة “سامر” التي كانت تصدر من بيروت، مستخدما فيها شخصيتي حسني وياسينو وحقّق فيها نجاحا طيبا.
قالوا عنه
عن شخصية نهاد قلعي الفنية تحدثت الفنانة السورية المخضرمة منى واصف التي قالت عنه “كنت أتابع أعماله المسرحية كلها وتحديدا آخر مسرحية له: غربة، التي يسكن بها في وجداننا، وكان لي الشرف أن عملت معه في فيلم: مقالب في المكسيك، وغيره من الأعمال”.
وتضيف “على المستوى الشخصي كان صديقا لنا، كنا نسهر في بيته مع زوجي الفنان محمد شاهين. كان كريما جدا يحب أن يعتني بالآخرين، شكّل مع الأستاذ دريد لحام ثنائيا فنيا نشر اللهجة السورية في كل الوطن العربي. نهاد قلعي أيقونة فنية كبيرة، جديرة بأن نهتم بها أكثر وأن نعطيها حقها. ما قدّمه الفنان نهاد قلعي للفن السوري والعربي كبير وعظيم”.
أما المخرج السوري أنور قوادري، نجل المنتج تحسين القوادري الذي أنتج له العديد من الأفلام، فقال : الوجه الإنساني لحياته انعكس تماما على فنه. أعرفه منذ الطفولة وشاركته العمل بصفة عامل كلاكيت أو ملاحظ سيناريو، كان يتعاطف مع العمال البسطاء الذين كان يشاركهم مجلسهم ومأكلهم ومشربهم، حيث يحب أن يكون جزءا من حياتهم. وقد انعكس ذلك على الأعمال التي كتبها، فهو يأخذ الحوارات من مصدرها ليشكّل بها شخصياته”.
ويضيف “هو فنان ابن بيئته، كما يتأقلم مع جميع اللهجات واللغات كالشامية واللبنانية والمصرية وحتى التركية كما في فيلم: غرام في إسطنبول. يلعب بالأبعاد السياسية في الدراما. كان متأثرا بالكاتب المصري الشهير بديع خيري. في التمثيل كان تلقائيا وبسيطا، وكان يجد حريته أكثر في المسلسلات”.
وعن قلعي الإنسان يقول أنور قوادري “كان كريما جدا يستدين حتى يهتم بضيوفه، وهذا ما دفع ثمنه عند مرضه. لم يهتم به الكثيرون.. ومهما فعلنا تجاهه فهو يستحق أكثر. كان يجد حريته أكثر في المسلسلات لكونه غير خاضع لشباك التذاكر لذلك كان نجاحه فيها أكبر”. “سنمار سورية الاخباري”
أما الكاتبة هناء أبوأسعد التي أعدّت عن الراحل كتيبا موجها للناشئة صدر عن الهيئة العامة للكتاب في سوريا في أوائل يناير الجاري، فقالت عنه “شرف كبير لي أن أكتب عن فنان عظيم مثل نهاد قلعي لما له من قيمة فنية كبرى. هو فنان زرع أيامنا بهجة وسعادة. تعرّفت من خلال الكتاب على تفاصيل جديدة عنه، وكذلك على جزء من أسرته اللطيفة. نهاد قلعي فنان مسرحي كبير أتشرّف بأن الحظ خدمني بلفتة طيبة منه، لكوني استخدمت ذات المكتب الذي كان له عندما كان مديرا للمسرح القومي في سوريا بحكم عملي في المكان ذاته”.