من النادر أن يجري الاتفاق على تصنيف شخصية سياسية، فالبعض قد يجدها ذات أثر فعّال، والبعض الآخر سيضعها في إطار من ظلال السلبية، لكن وزير الدفاع الأميركي الأسبق هذا، اتفق عليه الجميع دون تردّد، معتبرين أن دوره كان دوراً تدميرياً قام على الكذب واختلاق الذرائع لتحقيق سياسات محددة. وكاد العالم ينسى وجوده وبصماته السوداء. فقد توارى في الظلال بعد أن قاد مع رفاقه أبشع عمليات الغزو التقليدي التي عرفها التاريخ المعاصر، غير أن خبر موته أعاده من جديد إلى الواجهة ليعيد معه ضرورة مراجعة السياسة الأميركية حيال الشرق الأوسط، وفلسفة واشنطن في التعامل مع حلفائها الذين لا تلبث أن تعدّهم ألدّ الأعداء.
لكن حتى عائلة دونالد رامسفيلد تشكك في إرثه، فقد ورد في بيانها التي أعلنت فيه وفاته إن “التاريخ قد يذكره لإنجازاته الاستثنائية خلال ستة عقود من الخدمة العامة“. رامسفيلد، الذي لم يشفع له قراره بالتوجه نحو الأعمال الخيرية، بعد تقاعده عام 2008، وإنشائه لمؤسسة رامسفيلد التي تقدم الخدمات والدعم لعائلات العسكريين وقدامى المحاربين الجرحى، بطريقته الصدامية تمكّن من العمل تحت قيادة أربعة رؤساء على مدى ربع قرن من الزمان وتولى حقيبة الدفاع مرتين وترشّح للرئاسة مرة واحدة.
العنف السياسي
سياسات رامسفيلد العنيفة كانت البصمات الأولى لها قد بدأت تظهر في غرف التحقيق أولاً، ولم تنته فضائحه عند تعذيب معتقلي أبوغريب حيث أثبتت شهادات الجنود الأميركيين أنفسهم أنه وقّع بنفسه على أوامر تقضي بتطبيق أقسى الأساليب في التعامل مع العراقيين
عُرف رامسفيلد الذي ولد في العام 1932 في إيفانستون في ولاية إلينوي، لعائلة ألمانية هاجرت إلى أميركا، كمصارع خلال سنوات دراسته الجامعية في برينستون، وانخرط في برنامج عسكري في الحرم الجامعي لتغطية نفقاته، ومع أنه درس العلوم السياسية إلا أن ميوله إلى العنف قادته إلى البحرية الأميركية التي قضّى فيها عدة سنوات، قبل أن يعود إلى عالم السياسة في سن الثلاثين.
في الستينات كان رامسفيلد قد بدأ فلسفة الكذب السياسي من خلال قيادته لقانون حرية المعلومات للجمهور، وهي الخطوات التي قادته بالطبع ليكون إلى جوار الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون الذي عمل معه كمستشار، ويقول الكثيرون إن منصب رامسفيلد قرب نيكسون آنذاك كان يعادل منصب رئيس وزراء من خلال توليه رئاسة مكتب الفرص الاقتصادية، وقيادة برنامج تثبيت الاستقرار الاقتصادي.
كان يدرك قوة الاقتصاد، غير أن عينا رامسفيلد بقيتا مسمّرتين على القوة العسكرية، فاختار الذهاب كسفير وممثل دائم لأميركا في حلف الناتو، ومع طي صفحة نيكسون أعاده الرئيس جيرالد فورد كبيراً لموظفي البيت الأبيض، ثم وزيراً للدفاع لأول مرة، وحينها اختار رامسفيلد بنفسه أحد الشباب المقربين منه ليخلفه على منصبه في البيت الأبيض، ولم يكن ذلك الشاب سوى ديك تشيني الذي سيلمع نجمه في المستقبل في مأساة احتلال العراق رفقة رامسفيلد.
مع غياب شمس فورد وفريقه ابتعد رامسفيلد عن السياسة سنوات طويلة، خلالها كان يؤسس مكانته في الوسط الاقتصادي الأميركي، فعمل كمدير تنفيذي ورئيس للعديد من الشركات مثل جي دي سيرل وجنرال أنسترومنتس وغيلياد ساينسز حتى العام 2001 عام التحولات الكبيرة.
رامسفيلد والعراق
حاول العودة مجدداً من خلال عمله كمبعوث خاص إلى الشرق الأوسط في عهد الرئيس رونالد ريغان في 1983 – 1984، وحينها سيتلقى رامسفيلد بمن سيصبح ألد أعدائه في المستقبل، الرئيس العراقي الراحل صدام حسين الذي قابله في بغداد في ديسمبر 1983 خلال الحرب العراقية – الإيرانية.
كتب رامسفيلد في مذكراته عن ذلك ”بالنظر إلى واقع الشرق الأوسط، كما هو الحال الآن، كان على أميركا في كثير من الأحيان التعامل مع الحكام الذين اعتبروا (أقل سوءا) من الآخرين“.
كانت مهمة رامسفيلد آنذاك تكريس تبادل المعلومات الاستخبارية وتسهيل حصول العراق على المواد الأولية للتصنيع العسكري من خلال شركة تشيلية الجنسية، حسب مايكل دوبس في صحيفة الواشنطن بوست، وكانت نقاط الحوار التي حملها رامسفيلد معه وقتها مستقاة من التوجيه الرئاسي لريغان الرقم 114 ومن ضمنها عبارة تقول إن الولايات المتحدة ستعتبر “أيّ تغيير جوهري في الموازين ضد العراق بمثابة هزيمة استراتيجية للغرب”. وعندما التقى رامسفيلد بالرئيس العراقي أبلغه أن واشنطن مستعدة لاستعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة، وذلك حسب تقرير عن ذلك الاجتماع لدى وزارة الخارجية الأميركية.
لم ينس رامسفيلد الطريقة المتعالية التي عومل بها من قبل صدام حسين، ففي الوقت الذي كان فيه العرض الأميركي مستعجلا لاستئناف العلاقات الدبلوماسية على الفور أصرّ الرئيس العراقي على تأخير تلك الخطوة لعام كامل. فأقدم رامسفيلد على إقناع الإدارة الأميركية بشطب العراق من قائمة الدول الراعية للإرهاب، بسبب دعم بغداد للفلسطينيين، وهو ما قامت به وزارة الخارجية الاميركية بالفعل، رغم احتجاج الكونغرس.
هجمات القاعدة على مركز التجارة العالمي في نيويورك تعتبر اللحظة الأكثر حرارة في مسيرة رامسفيلد الذي انطلق إلى الموقع على الفور، وساعد في نقل الجرحى، ثم عاد مسرعاً إلى مكتبه، وحتى قبل أن تخمد الحرائق وتنتهي التحقيقات، كان الهدف هو غزو العراق
وقال مسؤولون أميركيون سابقون إن إزالة اسم العراق من هذه القائمة كان بمثابة محفز لصدام حسين الذي لم يبد تأثراً، وبينما كان رامسفيلد يتحدث إلى الرئيس العراقي في بغداد انتشر الدبلوماسيون العراقيون في العواصم الأوروبية في حملة تهدف إلى تسهيل شراء العراق للسلاح من الخارج، كما تؤكد الواشنطن بوست. بعدها ترشّح رامسفيلد للرئاسة عن الحزب الجمهوري عام 1988، غير أنه مني بالفشل، وكانت تلك نقطة تحول في حياته. ولعله اكتشف حينها أنه يمكنه أن يلعب دور الرئيس دون أن يكون رئيساً. والمطلوب فقط هو رئيس يسمع ويطيع.
وجاء ذلك الرئيس بعد سنوات. إنه جورج بوش الابن الذي استعان برامسفيلد ليكون وزيراً للدفاع، حتى قبل استهداف مركز التجارة العالمي في مانهاتن في الـ11 من سبتمبر 2001، ضمن مشروع طرحه آنذاك يرمي إلى إعادة بناء الجيش الأميركي وإعداده للقرن الجديد.
وحين وقع الهجوم كان كل شيء جاهزاً، انطلق رامسفيلد إلى موقع ”غراوند زيرو“ حيث حطام البرجين وساعد في نقل الجرحى، ثم عاد مسرعاً إلى مكتبه، وحتى قبل أن يهدأ غبار الانهيار وتخمد الحرائق وتنتهي التحقيقات، كان الهدف هو غزو العراق.
سيكتب رامسفيلد في مذكراته عن تلك اللحظات “في حين أن الطريق الذي لم نسر فيه يبدو أكثر سلاسة دائما، إلا أن الواقع البارد لنظام صدام حسين في بغداد سيعني على الأرجح أن الشرق الأوسط كان سيكون أكثر خطورة بكثير مما هو عليه اليوم”. وتابع قوله “إن فشلنا في مواجهة العراق كان سيبعث برسالة إلى دول أخرى مفادها أنه لا أميركا ولا أيّ دولة أخرى مستعدة للوقوف في طريق دعمه للإرهاب والسعي لامتلاك أسلحة دمار شامل”.
بدأ رامسفيلد بتطبيق سياساته العنيفة، ووضع الخطط الكبرى لغزو أفغانستان والعراق، وكانت البصمات الأولى قد بدأت تظهر في غرف التحقيق، فهو الذي طبق منهج ”الاستجواب المعزّز“، وشرعن الإيهام بالغرق من أجل استخلاص المعلومات، ولم تنته فضائحه عند غزو العراق وتعذيب معتقلي أبوغريب حيث أثبتت شهادات الجنود الأميركيين أنفسهم أنه وقّع بنفسه على أوامر تقضي بتطبيق أقسى الأساليب في التعامل مع العراقيين. وكان لا يكتفي بإصدار الأوامر المكتوبة، بل يذيلها بهوامش تأكيدية بخط يده، تنص على إجبار المعتقلين على الوقوف لساعات طويلة وتجويعهم وحرمانهم من النوم، واستخدام الضجيج لإرهابهم. وفي ذلك التوقيت بدأ وجه آخر لرامسفيلد بالتكشّف خارج السجون.
زراعة الرعب
انتساب رامسفيلد إلى تيار المحافظين الجدد يجعله على رأس قادة خططوا لنشر الرعب حول العالم، نازية جديدة بشعارات مختلفة، وضعت الديمقراطية ونشرها هدفاً معلناً تحته اختبأت كل الجرائم التي لم تكن تخطر ببال أحد.
ولتعزيز القوة والاقتصاد الأميركيين كان لا بد من وجهة نظر رامسفيلد في نشر المعتقلات والسجون ومراكز التحقيق والمحطات الأمنية في أصقاع مختلفة من القارات، وارتبطت بشخصيته صورة معتقل غوانتانامو الذي أسس خارج الأراضي الأميركية لضمان عدم التعرّض للمساءلة القانونية جراء الأساليب المتبعة فيه.
ترسخت صورة رامسفيلد كإيفان الأميركي الرهيب، وبات حديث الصحافة ووصفته وول ستريت جورنال بأنه كان مهندس حربي العراق وأفغانستان. كما وصفه برايس هارلو، وهو أحد مساعدي نيكسون، بأنه مستعد ليمشي على اللهب الأزرق لإنجاز عمله. وفي مقال مثير في صحيفة نيويورك تايمز اعتبر أندرو كوكبيرن أن صعود رامسفيلد وسقوطه وإرثه الكارثي “أمور تكشف لنا جميعا بأنه مخطط عنيد حاول التهرب من المسؤولية عن إخفاقاته الكارثية”. لكن ماذا حدث قبل أن يسقط رامسفيلد؟
أنقذ الموت رامسفيلد من مواجهة الحساب، مع أنه لم يبد ندمه لحظة واحدة على كل ما تسبب به من كوارث وضحايا، وقد سعى كثيرون إلى محاكمته، كما رفع محامون دوليون دعاوى أمام القضاء الدولي، ومن بينه القضاء الألماني، ضده وضد مسؤولين أميركيين سابقين، بتهمة ارتكاب جرائم حرب، نيابة عن معتقلين سابقين في سجني أبوغريب وغوانتانامو.
الآلاف من الصفحات ضمتها تلك الدعاوى، قدّمت إلى المدعية العامة الفيدرالية الألمانية مونيكا هارمز، حسب المحامي الألماني فولفغانغ كاليك، منسق هذه المبادرة للصحافيين. ورفع هذه الشكوى المركز الأميركي من أجل الحقوق الدستورية ”سي سي أر“ والاتحاد الدولي لحقوق الإنسان والجمعية الألمانية للمحامين الجمهوريين التي حصلت على دعم الجنرال السابق في الجيش الأميركي جانيس كاربينسكي التي ستمثل كشاهدة وهي التي كانت مسؤولة عن مراكز الاعتقال في العراق، لاسيما سجن أبوغريب الذي التقطت فيه تلك الصور المأساوية الرهيبة. وتكتسب هذه الدعاوى في ألمانيا وغيرها أهمية خاصة، إذ تكشف عن عجز القضاء الأميركي عن محاسبة رامسفيلد وأمثاله، لأنه لا تمكن مساءلة المسؤولين في المناصب العليا عن التعذيب في سجن أبوغريب، كما هو الحال بالنسبة إلى الموظفين الصغار. ولهذا فقد طلب محامون أميركيون من زملائهم في الخارج الاستفادة من الإمكانيات التي يتيحها القضاء الألماني في هذا الجانب. غير أن النتيجة كانت مخيبة للآمال، فالادعاء الألماني قرّر عدم إجراء تحقيق مع رامسفيلد، وذلك بعد تهديدات علنية تلقتها ألمانيا من البنتاغون حول احتمال تدهور العلاقات معها إذا ما تم قبول الدعوة المقدمة ضد رامسفيلد. وذكر المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية لورنس دي ريتا حينها أنه ”إذا أراد أحد المدعين العامين المغامرين خوض ملاحقة قضائية عديمة الجدوى، فإن ذلك سيؤثر في العلاقات (بين البلدين) بمعناها الواسع وأعتقد أن بالإمكان قول ذلك بشكل أكيد“.
سنة واحدة قضاها رامسفيلد بعد احتلال العراق، ثم قدّم استقالته معتبراً أن مهمته انتهت، لكن الرئيس بوش لم يوافق عليها إلا بعد ثلاث سنوات، وحينها أقيم لرامسفيلد حفل وداع، وكان عدد الجنود الأميركيين القتلى في العراق 2900 وسيصبح العدد الرسمي لاحقاً 4400 قتيل.
قواعد رامسفيلد وأخلاقياته لم تجد لها نظيراً في الساحة الأميركية، حتى أن تصريحاته لم تكن تحتملها إدارة بوش ذاتها، كما حين نددّت دانا بيرينو المتحدثة باسم البيت الأبيض بمذكرة قال فيها رامسفيلد إن الثروة النفطية جعلت المسلمين خمولين، مضيفة عن هذه التصريحات أنها لا تتناسب مع وجهة نظر الرئيس بوش. وكانت الواشنطن بوست قد نشرت مقتطفات من مذكرات داخلية حرّرت في عهد رامسفيلد. وجاء في إحدى هذه المذكرات أن الثروة النفطية أبعدت أحيانا المسلمين عن حقيقة العمل والجهد والاستثمار الذي يؤدي إلى الثروة في مكان آخر من العالم. وأوضحت مذكرة رامسفيلد أن المسلمين غالبا ضد الجهد الجسدي، ولذا استقدموا كوريين وباكستانيين للعمل، فيما يبقى شبانهم عاطلين عن العمل. وكان إبراهيم هوبر الناطق باسم مجلس العلاقات الأميركية – الإسلامية قد علّق قائلاً إن ”ملاحظات رامسفيلد إنما تعكس وجهة النظر النمطية التي دفعت بالولايات المتحدة إلى غزو العراق“.
وكانت هيومن رايتس ووتش قد طالبت الولايات المتحدة بتعيين مدعٍ عام خاص للتحقيق في مسؤولية رامسفيلد عن حالات تعذيب السجناء، وقدّمت تقريراً يتضمن دليلاً ملموساً كافياً للشروع بتحقيق جنائي معه، مؤكدة أنه يجب التحقيق مع رامسفيلد بشأن مسؤوليته عن التعذيب وجرائم الحرب التي ارتكبها الجنود الأميركيون في أفغانستان والعراق وغوانتانامو، بموجب مبدأ “المسؤولية القيادية“، ومما يزيد من مسؤولية رامسفيلد أنه وحسب المنظمات الحقوقية، وخلال ثلاث سنوات هي فترة وزارته، نشرت فيها كميات هائلة من المعلومات والصور لم يثبت أنه مارس سلطته وأنذر مرؤوسيه بأن إساءة معاملة السجناء يجب أن تتوقف.
والسؤال بعد مرور شبح رامسفيلد من عالمنا، هل تتعلّم الولايات المتحدة الدرس من ظهور هذا الرجل ورفاقه الذين نشروا الخراب تحت رفرفة العلم الأميركي أم أن رامسفيلد كان الأكثر انسجاماً مع براغماتية المصالح الأميركية المفرغة من أيّ التزامات أخلاقية؟