عندما كنت أكتب عن القنبلة الموقوتة في تركيا المتمثلة في الكتلة السورية التي استوردها اردوغان من أجل غايات عثمانية وتحويل هذه الكتلة السكانية الى ذخيرة في غزو الجنوب وتثبيت الحكم الاسلامي في تركيا بحجة انه صار ملاذ المسلمين الوحيد .. عندما كنت أكتب عن ان السوريين صاروا قنبلة موقوتة تهدد الامن القومي التركي كان المعارضون يصابون بالجنون والهستيريا وهم يدافعون عن اردوغان ويتهمون هذا النوع من الكتابات بأنها لفتنة المهاجرين والأنصار .. ولكن الحقيقة لاتغيرها مرافعات محامي الدفاع .. ومواعظ المنابر الدينية .. فوفق المنطق الاجتماعي والتاريخي فان انزياح كتلة سكانية سيؤثر في محيطها المضيف وستكون له ردة فعل سلبية مهما كانت قيم الضيافة عالية .. وهذا انفعال طبيعي بشري لاينجو منه اي شعور بشري .. خاصة اذا ماكانت بهذا الاحتكاك تداعيات اقتصادية او تمايزات ثقافية كبيرة .. والصراعات منذ القديم سببها احتكاك مجموعات سكانية بغيرها مما يحدق ؤد قعل وصدمة سلبية لدى أحد الاطراف ..
وهذا هو سبب نهوض المشاعر العنصرية .. فاوروبة الراقية التي كانت تغني يوما للطفلة الافريقية * تشيكيتيتا وتدعوها الى عدم الخوف لم تعد تغني هذه الاغاني .. فالسكان الاوروبيون اتخموا بالمهاجرين وصاروا يرون انهم يقاسمونهم الموارد والعمل ويؤثرون على مدنيتهم التي بنوها حيث يحمل المهاجرون قيمهم وعاداتهم .. مما رفع من منسوب العنصرية الذي لاشك لعبت فيه القوى الاجتماعية الصهيونية كي تحاصر المهاجرين المسلمين ليبقوا مشلولين بلا قوة في بلاد الغرب بحيث لاينافسون الكتلة اليهودية النافذة ..
وكذلك رأينا ان الاحتكاك السكاني قد فجره الغرب بين الفلسطينيين والاردنيين وبين الفلسطينيين واللبنانيين رغم ان هذه الكتل السكانية متشابهة جدا ولاتعتبر انتقالاتها الديموغرافية خطرة على النوع الثقافي والمدني .. فالفلسطيني هو جزء من بلاد الشام .. واللبناني اقرب اليه احيانا من الفلسطيني في غزة الذي اقرب مايكون الى مصر ..ولكن التحريض والايحاء ان الفلسطينيين سيغيرون من توازن السكان والقوى الطائفية في لبنان نحج في تفجير الكتلة في الحرب الاهلية .. وفي تفجير الصراع بين الاردنيين والفلسطينيين لأن هذا الصراع كان يخدم الاسرة الهاشمية والرغبة الاسرائيلية في استمرار الحكم الهاشمي ..
ولكن عندما حدث الانزياح السكاني الارمني الى سورية وبلاد الشام بسبب المجار العثمانية بحق الارمن لم يحدث هذا الانزياح صدمة وصداما لأن العرب والارمن كانوا ضحايا العدو العثماني .. يل على العكس فتح السوريون بيوتهم وبلادهم بترحاب للارمن الهاربين من الابادة .. وكذلك عندما نزحت كتلة سكانية عراقية كبيرة الى الاردن وسورية بعد حرب بوش فان ذلك لم يفجر صراعا بين السوريين والعراقيين رغم ان هذه الهجرة كانت ضاغطة على البنية التحتية السورية والاردنية .. والسبب ان هذه الانزياحات تعتبر بينية وكأنها لاتزال تقع ضمن هجرات الهلال الخصيب وتغريباته الشهيرة اي انتقال ضمن البيت الواحد وضمن العرق الواحد والثقافة الواحدة ..
وهذا مالم يفكر فيه الساسة الاتراك . لان المشاعر الطيبة للكتلة التركية تراجعت بسرعة وهي ترى ان مصالحها بدأت تتضرر وان ثقافتها التركية مهددة بالاجتياح الثقافي لكتلة وازنة في الجنوب التركي والمدن التركية .. وصارت صعوبات العائلة التركية تنسب دوما الى الوجود السوري .. مما زاد الحنق والاحتقان .. وكنت أدهش وانا استمع الى الاتراك وهم يسرون لي بغضبهم من ان تركيا تذوب في الجنوب وفي مناطق هامة في استانبول بسبب السوريين الذين يتملكون ويشترون ويؤثرون على بنية المجتمع والرفاه وعلى الذراع الاقتصادية لأن بعض الاثرياء السوريين الجدد صاروا مثل اللوبي السوري في بعض الاسواق ..
لذلك كنت أتوقع ان تبدأ عملية تصفية حسابات وتوترات اذا لم يتم تداركها فانها ستتسبب في صدام عنيف ان عاجلا او آجلا .. لأن الاتراك لايجمعهم بالسوريين الرابط العرقي واللغوي .. بل رابط الاقليم والجوار .. وهو ليس كافيا لصهر المجتمعين .. لأن التركي سيبقى تركيا والفارسي سيبقى فارسيا ولايجب ربط هذه المجتمعات الا بروابط متينة عبر تشبيك وتحالفات تشبه النوادي الاوروبية الكبرى كالاتحاد الاوروبي مثلا حيث تحافظ فيه كل مجموعة سكانية على خصائصها وثقافتها دون ان تهددها ثقافة الاخر .. اي ان مشروع البحار الخمسة الذي طرحته القيادة السورية كان الحل الامثل لربط هذه الكتل السكانية وليس دمجها بالاتحاد غير المتجانس .. فالاتراك بقوا في العالم العربي 400 سنة وبعد 400 سنة انفصلت الكتلتان التركية والعربية ولكل منهما لغته وخصائصه .. وتبين ان تركيا استطاعت ان تبقى في المنطقة لأنها قوة احتلال عنيفة وسحقت كل محاولة للتملص منها ولم تكن باقية لأنها مرغوبة او محبوبة ..
ومن يقرأ الاخبار في الصحف التركية يتوجس شرا .. فالأتراك يقتلون السوريين بالمفرق وبالجملة .. وفي كل يوم تحرشات واشتباكات وجرائم ومظاهرات .. فهناك لاجئ سوري يقتل في اطلاق نار عليه .. لاتبحث الشرطة عن الفاعلين .. وهناك طفل يرمى في المجاري والقنوات المائية انتقاما من أهله وتنسب العملية للقضاء والقدر .. وفي مدينة تركية يكفي ان يحدث اشتباك بين عائلتين حتى ينزل الشارع التركي كله في تلك المدينة لتلقين العائلات السورية درسا ..
ولذلك فان حزب العدالة والتنمية صار يبحث عن حلول جذرة لهذه القنبلة الموقوتة خاصة ان مشاعر الاتراك لم تعد تجامل في هذا الامر وهناك خشية من المستقبل اذا ما تزايدت هذه الكتلة السورية في المدن التركية .. وفي كل يوم يجد الاتراك انهم مستعجلون للوصول الى حل سياسي في سورية يخرجهم من هذا المازق .. ولكنهم يكابرون ويحاولون ان يخرجوا ببعض المكاسب والوجوه البيضاء امام شعاراتهم التي نفخوها في عقول الناس والبسطاء عن دولة الخلافة الام الرؤوم والحنون .. ويبدو ان الام ستأكل ابناءها عندما تجوع .. فهذا طبع الامم التي لاتنتج حضارة .. وتعيش متطفلة على الحضارات .. وتغار من الشعوب ذات الحضارات ..
نارام سرجون