وصلت في الثاني عشر من يوليو مكونات نظام الدفاع الصاروخي الروسي إس-400 إلى قاعدة أكينجي الجوية بالقرب من أنقرة، في خطوة تستدعي رداً من حليف تركيا الأقوى في حلف شمال الأطلسي، بالنظر إلى أن الولايات المتحدة عارضت مراراً وتكراراً حصول تركيا على نظام إس-400.
وسيأتي هذا الرد بالتأكيد، وستتشكل ملامح العلاقات الأميركية التركية لسنوات قادمة في ضوء ذلك الرد، عقابياً كان أم مستوعباً للطرف الآخر.
وجاء وصول مكونات إس-400 بعد أقل من يومين على وصول السفير ديفيد ساترفيلد، المبعوث الأميركي الجديد لدى تركيا، إلى أنقرة. كما جاء قبل أيام قليلة فقط من الذكرى السنوية لمحاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في 15 يوليو 2016. ويثير كل هذا تساؤلات بشأن توقيت التسليم.
ولدى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الرغبة في إبعاد تركيا عن الغرب والولايات المتحدة؛ وقد ظلت هذه الرغبة تشكل ملامح قرارات السياسة الخارجية لعقود – وإذا أسرع وتيرة تسليم بعض المكونات، فإن هذا يذكّرنا فقط بذلك الهدف القائم منذ زمن طويل، وليس بأي تغيير في سلوكه. الأهم من ذلك هو أن مشاهد تفريغ المكونات من على متن طائرة نقل روسية قضت على الآمال غير الواقعية في احتمال تحفيز أردوغان على إلغاء الصفقة مع روسيا.
فهل ستمضي الولايات المتحدة قدماً في خطط الإطاحة بتركيا من برنامج إف-35؟ هل ستفرض عقوبات في إطار قانون مكافحة أعداء أميركا من خلال العقوبات؟ هل ستقلص تعاملاتها مع المسؤولين الأتراك في حلف شمال الأطلسي؟ أو بالأحرى، عند أي نقطة ستأتي لحظة الحسم في هذا التأرجح المستمر بين العقاب والاستيعاب في التعاطي مع موضوع تسليم إس-400، المُتوقع منذ فترة طويلة؟
تُشير الدلائل إلى أن إدارة ترامب ستتخذ عدة خطوات لحماية المصالح الأميركية، وعلى وجه الخصوص خطوات تُنهي مشاركة تركيا في برنامج الطائرات إف-35، لكنها لن تفرض إجراءات عقابية. ويعني هذا أنها ستخفف حدة أثر العقوبات بقدر ما يسمح به القانون وضغوط الكونغرس.
وهناك عدد من الدلائل على هذا:
أول تلك الدلائل أن الإدارة كانت تعرف أن هذا الأمر سيحدث؛ ولو أن الإدارة تريد أن تُصدر إشارات على شدة استيائها، وتتبنى سلوكاً عقابياً نتيجة لهذا، لكانت أصدرت رسائل قوية ومُنسّقة بشكل كامل بين البيت الأبيض، ووزارة الخارجية، ووزارة الدفاع، والسفارة في أنقرة؛ وهي بالتأكيد لم تفعل هذا. وعلى افتراض وجود تنسيق بين وكالات الأمن القومي الأميركية والبيت الأبيض، فإن هذا يُشير إلى أن المباحثات بشأن رد أولي يعكس توافقاً على عدم مفاقمة التوترات من خلال تصريحات عدوانية، وتبني موقف ترقب على المستوى العلني، يسمح للإدارة ببحث ردّها وحجمه جيداً.
الأمر الثاني هو أن ساترفيلد وصل، ولم يتم تأجيل وصوله. وبالتأكيد فإن الولايات المتحدة كانت تعرف أن تلك المكونات كانت في طريقها، وكان باستطاعتها تأجيل وصوله لإرسال رسالة استياء لتركيا. ومن ثم فإن وصوله في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تعرف فيه أن تسليم مكونات إس-400 كان وشيكاً يُظهر أن الولايات المتحدة قررت الاستمرار في الحوار، أو ربما حتى توسيعه، بدلاً من الإشارات الحادة التي تأتي بنتائج عكسية.
ثالثاً، لم تصدر تغريدات قاسية على الفور من ترامب. ولا يتقيد الرئيس الأميركي الحالي في سياسته الخارجية بالبروتوكول، أو أي من الأمور التي كانت دارجة في السابق. ولو أنه أراد أن ينتقد تركيا لتسلُّمها مكونات إس-400، لكان فعل ذلك بغض النظر عن أي نصيحة من الدولة أو من وزارة الدفاع.
وأخيراً، فإن العقول الأكثر رويّة تبدو مهيمنة على المشهد فيما يتعلق بالعلاقات الأميركية التركية. وهذا في جزء منه بسبب نجاح أكرم إمام أوغلو في الفوز بالانتخابات على منصب عمدة إسطنبول بأغلبية محدودة في البداية، قبل أن يحقق نصراً مدوّياً في إعادة الانتخابات. ذكّر هذا صنّاع السياسات والناقدين في واشنطن بأن تركيا لا تعكس فقط ميول رئيسها، ولكن أيضاً أنها تظل ديمقراطية، للناس فيها الكلمة الأخيرة – وإن كانت ديمقراطية معيبة أُضعفت مؤسساتها الديمقراطية. ومن شأن الرد بأسلوب عقابي على تركيا، من منطلق اتّباع رئيسها سياسة خارجية تهدف إلى الابتعاد عن القيم الديمقراطية الغربية، أن يضر بمصالح الولايات المتحدة والديمقراطيات التي تقودها عبر المحيط الأطلسي.
وسترسم الأسابيع القليلة القادمة صورة أوضح بشأن الكيفية التي سترد بها الولايات المتحدة. ويتعين علينا أن ننتبه إلى أحداث محددة لقياس الرد الأميركي.
وسيتحدد اهتمام أردوغان بالتعامل عن كثب مع الولايات المتحدة في ضوء من سيستقبل ساترفيلد عندما يقدم أوراق اعتماده ليصبح سفيراً رسمياً للولايات المتحدة في تركيا. وفي الدول التي يكون فيها منصب الرئيس شرفياً إلى حد كبير، تكون الممارسة الأكثر شيوعاً هي أن يستقبل ذلك الرئيس السفراء الجدد؛ لكن هذه الممارسة أقل شيوعاً في الدول التي فيها نظام الرئاسة التنفيذية، حيث يتعين أن يستقبل وزيرُ الخارجية السفيرَ أولاً. وإذا استقبل أردوغان ساترفيلد بنفسه ليقدم له الأخير أوراق اعتماده، فسيُرسل هذا رسالة مُفادها أنه يسعى إلى علاقات أوثق مع الولايات المتحدة. أما إذا قدّم ساترفيلد أوراق اعتماده لمسؤول أقل درجة من وزير العلاقات الخارجية، فإن هذا سيُرسل رسالة سلبية.
وعلى مدى نحو عامين، ظل القائمون بالأعمال المؤقتون يديرون العلاقات الدبلوماسة الأميركية الرسمية في أنقرة. وبينما يتمتع هؤلاء بالكفاءة العالية، فإنهم لا يتمتعون بمكانة أو سلطة السفراء المعينين من قِبل الرئيس، والذين صادق على تعيينهم مجلس الشيوخ. وحالما يتم اعتماد ساترفيلد، سيصبح أمام تركيا مُحاور موثوق به يمكنها التواصل مع واشنطن مباشرة من خلاله بثقة وفي سرية. ويحظى ساترفيلد باحترام كبير في واشنطن؛ وبقدر عدم قدرة آراء القائمين بالأعمال بشأن كيفية الرد على الحكومة التركية جذب اهتمام قوي من الخارجية الأميركية والبيت الأبيض، بقدر ما ستكون آراء ساترفيلد حول هذا الشأن محل اهتمام شديد من جانبيهما. وستكون تصريحاته وتصريحات السفارة المعلنة حول العلاقات مع تركيا قي الأسابيع القادمة، بعد اعتماده رسمياً، أداة قياس مهمة للعلاقة بين البلدين.
ويبدو الآن أن أردوغان سينجح في جهوده الجارية لتأكيد استقلال تركيا عن الدول الغربية المتطفلة من دون عقوبات أميركية تُضعف الاقتصاد، الذي يتزايد اعتماد مستقبله السياسي عليه. وستخسر تركيا إمكانية الحصول على الطائرات إف-35، وسيتعامل حلفاؤها في حلف شمال الأطلسي معها بمزيد من الحذر؛ لكن يبدو أن صناع السياسات في واشنطن يُدركون أن إلحاق المزيد من الضرر الاقتصادي بالشعب التركي لن يُفيد الولايات المتحدة، وسيغذي فقط خطاب أردوغان القومي حول جهود الغرب لاحتواء صعود بلاده.
لكن الوقت مبكر. وسيظل أردوغان على الأرجح يسعى لعلاقات أكثر دفئاً مع روسيا، ومزيداً من الاعتماد عليها، ويحاول إظهار الولايات المتحدة في صورة الطرف المتسبب في تضرر العلاقات الأميركية التركية. وبالنسبة للولايات المتحدة، فإنها ستلجأ بعض الشيء لمهارة سفيرها الجديد ومزيداً من الصبر من جانب صنّاع السياسات في واشنطن، لكي تحافظ على علاقاتها مع تركيا في مواجهة تلك الجهود. وقد بدأ الصبر على أردوغان ينفد بالفعل – وسنرى في رد الولايات المتحدة على تسليم مكونات إس-400، ما إذا كان صُنّاع السياسات ما زالوا يرغبون في التسامح مع خطاب تركيا وأفعالها المعادية للولايات المتحدة من أجل إبقاء الشعب التركي في زُمرة المجتمع الديمقراطي العابر للأطلسي.