جزاء سنمّار.. لعل هذا ما ينطبق على علاقة الدولة العثمانية بالأرمن، فالرعايا الذين دعموا الأتراك في حروبهم ضد الروس، وشاركوا في تجهيز جيوش السلطان عبد الحميد الثاني، لقوا ما لقيه البنّاء الماهر، إذ قتل السلطان منهم ما يزيد على 50 ألفًا، واغتصب نساءهم، واختطف أطفالهم.
السلطان العثماني عبد الحميد الثاني يكتسب مكانة خاصة في سلسلة الحكام أصحاب الأيادي الملطخة بدماء الأبرياء، الرجل لم يكتف باضطهاد الأرمن بل ارتكب بحقهم مجازر مخزية ومروعة يشهد عليها تاريخ طويل من القتل والأرض المفروشة بالجثث.
العثمانيون أثقلوا كاهل الأرمن بالكثير من الضرائب الباهظة تجاوزت ما يدفعه باقي رعايا الدولة أضعافًا، إذ فرضوا على الفلاحين جبايات بلغت ثلث محصول الأراضي الزراعية، رغم أنهم فرضوا عليهم العمل مزارعين مستأجرين تحت سيطرة نخبة من الإقطاعيين والعسكريين، وحرموا من امتلاك الأراضي، وصاحب جمع الضرائب حالات خطف وتهديد وسرقة، وكثيرا ما أرغموا على الدخول في الإسلام مقابل إسقاط الجزية.
الأتراك تمادوا في إذلال وتحقير الأرمن، ولم يسمحوا لهم بالتحدث بلغتهم الأم إلا أثناء تلاوة الصلوات وفرضوا عليهم اللغة التركية ودفع الجزية، كما رفضوا شهادتهم بالمحاكم الشرعية، وحظر عليهم الالتحاق بالجيش وحمل السلاح، فضلا عن الامتيازات المادية والاجتماعية لأفراد الجيش.
“نرسيس فارجابيديان” بطريرك الأرمن الأرثوذكس في إسطنبول تقدم بطلب إلى السلطان عبد الحميد الثاني في 23 ديسمبر 1876، وطالبه بتقديم إصلاحات سياسية وإدارية واقتصادية في الولايات الأرمنية، وصادف أن أصدر السلطان الدستور العثماني، عندئذ كان الأرمن أشد مسيحيي الدولة العثمانية تحمسا لصدور الدستور، بعد أن أعلن الدستور مساواة المسلمين والمسيحيين في الحقوق والواجبات أمام القانون.
تضحيات الأرمن
الحرب الروسية العثمانية اندلعت إثر أزمة البلقان في عام 1875، وقد أدت تطورات تلك الأزمة إلى إعلان روسيا القيصرية الحرب على الدولة العثمانية في 24 أبريل 1877، وقامت باكتساح أراضيها على جبهتين، جبهة في البلقان، وجبهة في القوقاز على حدود كردستان الشمالية.
الأرمن أعلنوا ولاءهم للدولة العثمانية، وفي بداية الحرب أكدت البطريركية الأرمنية في إسطنبول إخلاصها للسلطان عبد الحميد الثاني، وفي 25 أبريل 1877 أعلنت الحكومة التركية في مجلس المبعوثان (البرلمان العثماني) أن روسيا القيصرية أعلنت الحرب على الدولة العثمانية، فسارع جميع النواب ومن بينهم 9 أرمن وأعلنوا دعمهم للجيش العثماني.
لم يكن أحد أكثر تحمسا من النواب الأرمن، لاسيما مانون أفندي، النائب الأرمني عن ولاية حلب، والذي وقف في وسط البرلمان وصاح قائلا: “نحن المسيحيين الأرمن نرغب في أن نعلن بأننا لا نحتاج إلى حماية روسيا، ونحن لا نتخلى مطلقا عن أصدقائنا المسلمين، فلم نهجرهم سابقا، ولا نهجرهم الآن”.
وبينما كانت الحكومة العثمانية تتدارس المهلة الروسية قبل الحرب، قال البطريرك الأرمني نرسيس: “إذا كتب لهذه الدولة أن تنهار فإننا نعتبر من واجبنا أن ندفن تحت أنقاضها، ومن الأفضل لنا أن نموت بشرف وبكرامة من أن نعيش في عار”.
الكنيسة الأرمنية في أرضروم عارضت التعاون مع القوات الروسية، عندما طُلب من رئيس الأساقفة فيها “أوجكيليساه” إبداء تعاونه مع روسيا في يوليو 1877، وقد اختطفه بعد ذلك الروس، لأنه رفض دعوة للتمرد ضد السلطان عبد الحميد الثاني أثناء الحرب، كما أُحرقت كنيسته، وأتلفت الوثائق والكتب الدينية فيها.
السلطان عبد الحميد الثاني طلب من نرسيس حشد الأرمن للتطوع في الجيش العثماني، وبالفعل اجتمعت الجمعية العامة للملة الأرمنية برئاسة البطريرك نرسيس في 7 ديسمبر 1877، وقرت بالإجماع انخراط الأرمن في الحرس المدني العثماني، من أجل حماية حدود البلاد من الغزو الروسي، كما اجتمع أكثر من 5 آلاف أرمني حول نوابهم، وبعد الجتماع صلى نرسيس من أجل حماية أراضي السلطنة.
الميليشيات الحميدية
الجيوش العثمانية تراجعت في كافة الجبهات أمام جحافل الروس، وخشي عبد الحميد من تحالف الأرمن مع روسيا، بعد أن تسلم تقارير عسكرية تحذره بأن خسارة الولايات الأرمنية قد يفتح أبواب الأناضول أمام الجيوش الروسية لتصل إلى إسطنبول.
وبدلا من توجيه كل طاقاته وقواته العسكرية لمحاربة الروس، قام عبد الحميد ثاني بتشكيل ميليشيات عسكرية مرتزقة، مهمتها الأولى قتل الأرمن، وبالفعل هاجمت الميليشيات المسلحة القرى والمدن الأرمنية، وهدموا المنازل، ونهبوا الممتلكات والأموال، وقتلوا مئات الأبرياء، وأسروا مئات النساء والأطفال.
الميليشيات الحميدية هاجمت القرى الأرمنية بتكليف من عبد الحميد الثاني، فحرقوا البيوت على ساكنيها، ونهبوا محاصيل وأمتعة الفلاحين، وقتلوا كل مزارع حاول الدفاع عن ماله وعرضه، وقد اغمض السلطان عينيه عن جرائم الميليشيات اعتقادا منه بأن هذا السلوك الإرهابي هو أفضل سبيل لإجبار الأرمن على السمع والطاعة.
أوروبا توثق المذابح الحميدية
وبعد التشاور مع البطريرك نرسيس، أرسل الأرمن نداءات استغاثة إلى سفراء وقناصل الدول الأوروبية، واهتم السفير البريطاني “أوستن هنري لايارد” بالمسألة الأرمنية، وكلف “زوهراب” القنصل الإنجليزي في مدينة أرضروم بإعداد تقارير عن مذابح الأرمن.
وفي 21 أغسطس 1877 أعد زوهراب تقريرا مفصلا عن مذابح الأرمن على يد الميليشيات الحميدية، ذكر فيه تفاصيل مروعة حول أعمال قتل وحرق وتعذيب واغتصاب وسرقة ضد الأرمن في مدينة “بايزيد”،
السفير البريطاني أوستن هنري لايارد أرسل لجنة دبلوماسية إنجليزية بقيادة “رسام” (Rassam) في أغسطس 1877، وكلفهم بإعداد تقرير عن الوضع السياسي والإنساني في الولايات الأرمنية المتضررة، وفي 15 أكتوبر قدم رسام تقريرا مفصلا عن أحداث مذبحة بايزيد على يد الميليشيات الحميدية.
رسام قال في تقريره: “إن ضعف السلطات العثمانية المحلية، وفساد جباة الضرائب في تلك المناطق كان السبب الرئيس للمشاكل الحالية، وقد شاركت الشرطة المحلية في عمليت السرقة والسلب والنهب، وقد استغل بعض الجنود الأتراك العاملين في نقل المؤن إلى الجيش للعبث بأمن السكان الأرمن وارتكاب جرائم القتل والسرقة”.
صحيفة التايمز البريطانية كتبت في 24 أغسطس 1877 أن “قرى سهل الأشيكرد وعددها 122 قرية والتي يمر بها جيش إسلام باشا دمرت تماما، وقتلوا من كان فيها من مسيحيين بكل وحشية، وأحرقت قرى بكاملها، فضلا عن ذلك دمرت قرى من قضاء موش وقتل الكثير من أهلها بحد السيف ومدينة بايزيد”.
صحيفة “مشاك” الأرمنية الصادرة في الولايات الأرمنية الروسية نشرت عدة مقالات عن مذابح الأرمن في عام 1877، وفي 16 ديسمبر نشرت رسالة من الأرمن القاطنين بولاية وان العثمانية جاء فيها: “إن يوم 13 ديسمبر هو الأسوأ في حياة أهالي وان، إذ أحرقت المدينة وتعرضت للنهب والسلب من قبل الغوغاء ورجال الشرطة والجند، وكلهم حملوا المشاعل والفؤوس وحطموا المتاجر وقتلوا الكثير وجرحوا المئات بالطعن بالحراب والبنادق، وقد صدمت هذه المفاجأة أهالي وان من الأرمن، وكان المسؤولون الحكوميون يتظاهرون بالعجز من كبح جماح هؤلاء الغوغاء”.
الأرمن يثأر لقتلاه
استمر الأرمن في دعم العثمانيين حتى سقوط مدن بلفنة، وقارص، وبايزيد، وأردهان، وبعض أجزاء مقاطعة أرضروم بيد الروس، لكن المذابح الحميدية دفعت زعماء ومثقفي الأرمن إلى فسخ العقد الاجتماعي بينهم وبين السلطنة.
زعماء ومثقفو الأرمن اجتمعوا للتشاور بشأن بشاعة جرائم الميليشيات الحميدية، وأرسلوا عشرات الشكاوى إلى السلطان، لكنه غض الطرف، ولم يحاول تهدئة الموقف الملتهب، بل اتهم الأرمن بالخيانة العظمى.
الأرمن باتوا في حل من تعهداتهم باستمرار دعمهم للجيوش العثمانية، لاسيما أن روسيا تعهدت بمنح الأرمن الاستقلال التام، وهاجر آلاف الأرمن الواقعين تحت الاحتلال العثماني إلى الولايات الأرمنية الروسية، وهناك شكلوا فرقا مسلحة للدفاع عن أنفسهم ضد أي اعتداء تركي محتمل.
الجيش العثماني لم يصمد طويلا في جبهة شمال كردستان أمام زحف الجيش الروسي، والذي كان أحسن تنظيما وأكثر عددا وعدة، وفي أكتوبر 1877 سحق الروس جيش أحمد مختار باشا، القائد العام للجيش العثماني في جبهة كردستان، والذي تلقى هزائم مروعة من الجيش الروسي في مدينة أرضروم.
سقط حصنا “حافظ باشا” و”قره طاغ” في نوفمبر 1877، وكانا بمثابة مفتاح مدينة قارص، والتي سقط في منتصف الشهر، ثم دخلت القوات الروسية مدينة أرضروم في مطلع يناير 1878، وقُتل 2500 جندي تركي، وتم أسر 17 ألف جندي عثماني، بينهم 800 ضابط، واستولى الروس على 33 مدفعا وكميات هائلة من المؤن والذخيرة.
معاهدة سان ستيفانو
وفد أرمني برئاسة “نيرسس” بطريرك الأرمن في إسطنبول، شارك في معاهدة الصلح بـ”سان ستيفانو” مارس 1878 بين الدولة العثمانية وروسيا، وبمساعدة القيصر الروسي أُدرجت المادة الـ16 ونصت على تعهد العثمانيين بإدخال إصلاحات في الولايات الأرمنية وتأمينها من اعتداءات الأكراد والشراكسة.
آمال الأرمن تعلقت بمؤتمر برلين عام 1878 في تعديل وضعهم على نحو أفضل مما قررته سان ستيفانو، وكونوا وفدا برئاسة الأسقف الأرمني في إسطنبول، وقدموا إلى “أوتو بسمارك” رئيس المؤتمر بالعاصمة الألمانية التماسا مطالبين بوضع نظام حكم ذاتي على غرار نظيره في لبنان على أن يكون رئيسهم مسيحيًّا من الأرمن.
نصت معاهدة برلين في المادة الـ61 على: تتعهد الدولة العثمانية بأن تجري دون تأخير في الولايات التي يسكنها الأرمن التحسينات والإصلاحات التي تحتاج إليها أمورها الداخلية، وأن تتعهد بتأمينهم من اعتداءات الشراكسة والأكراد، وعلى الدول الكبرى أن تراقب تطبيقها.
عقب مؤتمر برلين، شعر الأرمن أن قرار المؤتمر حبر على ورق، لم ينفذ السلطان عبد الحميد الثاني تعهده وتمسك بسياسته المركزية وأقدم على عزل الأرمن من أغلب المناصب السياسية والإدارية بالحكومة.