تعاني كل من السعودية وتركيا، وإلى حدٍ أقل مصر، من تداعيات تراجع الإقتصاد العالمي بسبب جائحة كورونا، ومن تغيير جذري في تعامل الإدارة الأميركية مع تلك البلدان وحكامها، ما يتطلب تخفيف التوترات في ما بينها كما محاولة تصفية الخلافات في ساحات مختلفة من ليبيا الى سوريا وصولًا إلى اليمن.
مع إنطلاق ثورات “الربيع العربي”، أصيبت العلاقة بين تركيا من جهة، والسعودية والإمارات من جهة ثانية بتصدعات كثيرة، وشكّل صعود محمد بن سلمان إلى ولاية العهد وقراره بالالتحام سياسيًا مع ولي عهد الإمارات محمد بن زايد عام ٢٠١٧ وقطع العلاقات الخليجية مع قطر في تلك السنة محطة بارزة في سياق تردي العلاقات بين تركيا والسعودية والإمارات، ولم يكد ينطوي العام التالي حتى حصلت جريمة مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول حيث بلغ التوتر بين السعودية وتركيا مرحلة غير مسبوقة.
اختلف الأتراك والسعوديون (ومعهم الإماراتيون) حول العديد من الملفات الإقليمية: من سوريا الى ليبيا الى شرق المتوسط ففلسطين وصولًا الى حرب إقليم ناغورنو قره باخ بين أذربيجان وأرمينيا.
ومن نافل القول ان البلدين مختلفان حول العلاقة مع ايران، فضلاً عن الخلاف الأساسي (الفكري ـ الديني) المتصل بالتبني التركي (والقطري ضمنًا) لكل موجة “المد الإخواني” التي شهدتها المنطقة في العقد الأخير.
في هذا السياق، قررت السعودية في نهاية ٢٠٢٠، إقفال ثماني مدارس تركية على اراضيها تتوزع بين مكة والمدينة المنورة برغم المراجعات التركية للتراجع عن القرار، وابقت المملكة على ٢٦ مدرسة عاملة مفتوحة. تراجع العلاقات السياسية إرتد اقتصاديًا أيضًا، فمع مطلع عام ٢٠٢١ انخفض الاستيراد السعودي من تركيا ٩٢٪ في شهري كانون الثاني/ يناير وشباط/ فبراير على التوالي، وهوى هذا الإستيراد ٩٣.٧٪ في شهر آذار/ مارس أيضًا. كل ذلك كان نتاج حملة غير رسمية قادها رئيس مجلس الغرف السعودية عجلان عجلان في تشرين الأول/ اكتوبر٢٠٢٠ بدعوته الى مقاطعة تركيا بشكل كامل، على مستوى الإستثمار والسياحة والتجارة.
وتعد السعودية السوق الخامس عشر من حيث الحجم بالنسبة الى الصادرات التركية من حبوب وأثاث وصلب ومنسوجات وسجاد ومواد كيمائية وغيرها. كما تظهر الإحصاءات هبوط التصدير التركي الى السعودية من 3.2 مليار دولار عام ٢٠١٩ الى 2.3 مليار عام ٢٠٢٠ بإنخفاض بلغ ٢٤٪.
“كان واضحًا أن القاهرة تنتظر من أنقرة إلتزامات معينة. وبالفعل، إتخذت تركيا سلسلة خطوات عملية تتصل بحركة الإخوان المسلمين المقيمين على أراضيها، سياسًة وإعلامًا وتمويلًا، وذلك إستجابة لتفاهمات امنية مع مصر، وكان أبرزها وقف بث قنوات تلفزيونية مصرية معارضة من الأراضي التركية في أواخر السنة الماضية”
وغداة صدور نتائج الإنتخابات الرئاسية الأميركية، اتصل العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان في ٢٠ تشرين الثاني/ نوفمبر ٢٠٢٠، ووجه إليه الدعوة إلى حضور قمة العشرين واتفقا حينها، وهذا الأهم، على ابقاء القنوات مفتوحة بين البلدين. تلك القنوات المفتوحة سرعان ما تمددت باتجاه مصر عبر التواصل الأمني التركي ـ المصري، في محاولة من البلدين لطي صفحة من الخلافات، انفجرت مع الإطاحة بالرئيس المصري محمد مرسي في تموز/ يوليو ٢٠١٣ وتدحرجت لتصل إلى حدود خفض العلاقات الدبلوماسية والأمنية والتجارية.
كان واضحًا أن القاهرة تنتظر من أنقرة إلتزامات معينة. وبالفعل، اتخذت تركيا سلسلة خطوات عملية تتصل بحركة الإخوان المسلمين المقيمين على أراضيها، سياسًة وإعلامًا وتمويلًا، وذلك استجابة لتفاهمات امنية مع مصر، وكان أبرزها وقف بث قنوات تلفزيونية مصرية معارضة من الأراضي التركية، وفي الوقت نفسه، بدا أن تخفيف الاحتقان سيأخذ مساره على الضفة السعودية أيضًا، ويفترض أن يتمدد بإتجاه الإمارات الأكثر تشددًا مع تركيا، من دون إغفال حقيقة أن مصالحة العلا بين دول مجلس التعاون الخليجي في 5 كانون الثاني/ يناير ٢٠٢١شكلت قوة دفع للمصالحة الخليجية ـ التركية. لقد إستشعرت المملكة ضرورة اجراء تحولات نتيجة اقتناعها ان الإدارة الأميركية الجديدة تريد الانفتاح على ايران من دون الالتفات الى هواجس السعودية حول الصواريخ الباليستية وتهديدات الأذرع الإقليمية. بالمقابل، شعرت تركيا ان خصومها حول العالم يتزايدون، ما استدعى موقفًا علنيًا من رجب طيب اردوغان في مؤتمر حزب العدالة والتنمية في اواخر شهر آذار/ مارس ٢٠٢١، من خلال قوله: “نحن مصمّمون في الفترة المقبلة على تحويل منطقتنا إلى واحة سلام عبر زيادة عدد أصدقائنا ومعالجة الخصومات”، مضيفًا أن “تركيا لا تملك ترف أن تدير ظهرها لا للغرب ولا للشرق”. وتابع: “نحن مقتنعون بأنه ليس هناك أي مسألة لا يمكننا أن نحلّها مع الدول التي تحترم مصالحنا الوطنية”. كانت لافتًة للإنتباه اللغة التي إعتمدتها وزارة الخارجية التركية في 7 آذار/ مارس الماضي بتعبيرها عن “بالغ قلقها” إزاء الهجمات التي استهدفت الأراضي السعودية، ومصدرها ترسانة الصواريخ الإيرانية بحوزة جماعة أنصار الله في شمال اليمن. جاءت الإدانة التركية الدافئة، مباشرة بعيد اعلان العميد يحي سريع الناطق بإسم الحوثيين عن اسقاط طائرة مسيرة تركية تابعة لسلاح الجو السعودي. وكانت المملكة قد وقعت عقدًا مع شركة “فيستل” التركية المصنعة للمسيرات بقيمة ٢٠٠ مليون دولار.
” تقول مصادر تركية عليمة إن التوتر بين بلدين كبيرين مثل السعودية وتركيا “لم يحقق مكاسب لأي منهما، وإنعكس سلبًا على المنطقة برمتها، وهاتان الدولتان مؤثرتان جدًا في الإقليم، ومن شأن العلاقة الإيجابية بينهما أن تنعكس إيجابًا على الجوانب الأمنية والعسكرية والسياسية والإقتصادية للبلدين” ”
في اليمن، تعترف تركيا بشرعية عبد ربه منصور المدعوم سعوديًا، كما أن حزب التجمع اليمني للإصلاح (اخوان اليمن) المرتبط بعلاقة وثيقة مع تركيا، ويقيم عدد من قياداته فيها، هو على تعاون مع السعودية وقد شكل، على الأرجح، جسر تواصل بين السعودية وتركيا. ويشارك مقاتلو “الإصلاح” الى جانب التحالف والقبائل بقيادة محافظ مأرب سلطان العرادة في معركة مأرب ذات الأهمية الإستراتيجية للطرفين المتقاتلين .
وكانت مصادر يمنية مقربة من تركيا تحدثت نهاية العام الماضي عن تقارب بين تركيا والسعودية في اليمن. ولتركيا مصلحة استراتيجية في تعزيز تواجدها قرب باب المندب اذ تقيم قاعدة عسكرية هي الأكبر لها في القرن الأفريقي في الصومال وتواجدها هناك يعزز توازنها مع حليفها ومنافسها الأقوى في المنطقة، أي إيران. وتقول مصادر تركية عليمة إن التوتر بين بلدين كبيرين مثل السعودية وتركيا “لم يحقق مكاسب لأي منهما، وإنعكس سلبًا على المنطقة برمتها، وهاتان الدولتان مؤثرتان جدًا في الإقليم، ومن شأن العلاقة الإيجابية بينهما أن تنعكس إيجابًا على الجوانب الأمنية والعسكرية والسياسية والإقتصادية للبلدين”. وتشير المصادر ذاتها إلى وجود رغبة تركية سوف تترجم جهودًا حثيثة لترميم علاقات تركيا مع أربعة بلدان هي: فرنسا؛ اليونان؛ مصر والسعودية. وترغب تركيا أيضًا، بحسب المصادر نفسها، إعادة بناء الثقة والتحالف مع الولايات المتحدة الأميركية والناتو حيث كانت تلك العلاقة مدار بحث في اتصال اجراه وزير الدفاع الأميركي لويد اوستن بنظيره التركي خلوصي اكار في الأول من نيسان/ أبريل الماضي،
وتركز حول دور تركيا في افغانستان، وضرورة التفاوض التركي اليوناني والمناورات المشتركة الأميركية التركية في البحر الأسود وضرورة التخلص من منظومة إس ٤٠٠ التي إشترتها تركيا من روسيا بعد محاولة الإنقلاب عام ٢٠١٦.
لا بد لتركيا من جهة ولمصر والسعودية والإمارات من جهة ثانية، من إجراء مراجعة شاملة تضع حساب الأرباح والخسائر في الميزان. فعودة العلاقات الى التحسن تحقق أهدافًا مشتركة أوسع بكثير من استمرار التوتر لسنوات:
أولًا، في شرق المتوسط، تحتاج تركيا إلى معالجة تداعيات لقاء فيليا اليوناني الذي استثناها وهي تعتبر الا حلول غازية وحدودية نهائية في منطقة المتوسط من دونها.
ثانيًا، تريد مصر من تركيا متابعة مسار الحد من حضور وتمويل ورعاية نشاط الإخوان المسلمين المصريين على ارضها.
ثالثًا، تريد تركيا من الدول العربية، كما من فرنسا، التوقف عن دعم حزب العمال الكردستاني، عسكريًا وماليًا وسياسيًا.
رابعًا، تحتاج تركيا والسعودية ومصر والإمارات إضافة إلى قطر إلى تقديم رؤية موحدة إزاء العديد من قضايا المنطقة والإقليم، وبينها قضايا الإرهاب وأدوار بعض القوى الإقليمية والدولية.
خامسًا، لن تستطيع أية دولة من الدول الأربع هز ركائز نظام أي منها؛ فالرئيس أردوغان باق حتى إنتخابات ٢٠٢٣ على الأقل، وهو يحتاج لإستعادة العلاقات التجارية مع دول الخليج في ظل ازمة مالية واقتصادية غير مسبوقة منذ توليه السلطة في تركيا. والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ثبّت حكمه وعزّز حضور مصر ونموها الإقتصادي، برغم بعض القضايا المفتوحة، ومنها مسألة سد النهضة الذي يشكل بعدًا حيويًا استراتيجيًا لمصر، كما للسودان وحيث يستطيع التركي المؤازرة عبر علاقاته مع أديس أبابا. وولي العهد السعودي بات الرجل الأقوى في المملكة من دون منازع، برغم الاهتزازات والإمتحانات التي تعرض لها، وبمقدوره أن يستثمر بالعلاقة مع تركيا لإنهاء حرب اليمن. اما الأمير محمد بن زايد والأمير تميم بن حمد آل ثاني، فقد تمرسا وأسّسا وأرسيا علاقات وتوازنات ليس من السهل إختراقها. الديبلوماسية، الحوار والشجاعة. هذا ما تحتاجه المنطقة كلها.
خلدون الشريف