(نجاحات وأسئلة استراتيجية)
ساسين عساف*
أسبوع مضى على حرب الإقتلاع والترحيل والتهويد في القدس والضفّة والقرى الفلسطينية المحتلّة في العام 1948وحرب الإبادة على غزّة اللتين تشنّهما بالتزامن حكومة الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني لاستكمال يهودية الدولة وإسقاط حقّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم السيّدة والحرّة والمستقلّة على كامل ترابهم الوطني التاريخي، وعاصمتها القدس.
المقاومة الشعبية المدنية والمسلّحة بشهدائها وجرحاها، أطفالاً وشباباً نسوة ورجالاً وشيوخاً، بمختلف فئاتها وفصائلها وتوزّعها الجغرافي، واجهت وصمدت وحققت نجاحات ميدانية وسياسية وديبلوماسية وإعلامية في تصدّيها الشجاع لأشرس آلة عسكرية ذات قوة تدميرية هائلة يقودها قتلة ومجرمو حرب.
صرخت في وجه العالم كلّه: لا إعتراف بالكيان الصهيوني أصلاً ولا اعتراف بيهودية دولته العنصرية، فعبّرت بذلك عن الصوت الفلسطيني الشرعي والتاريخي الذي يرتفع عالياً ليعلي الصرخة نفسها في كلّ مواجهة.
المقاومة بكفاءة قتالية عالية أظهرت أنّ جيش العدو “الذي لا يقهر” بالإمكان قهره وأنّ وظيفته الفعلية ليست القتال دفاعاً عمّا يدّعي، وتسانده في ادّعائه قوى دولية، على رأسها الإدارة الأميركية المتصهينة، من أنّ له “الحق في الدفاع عن أمن إسرائيل”، بل هي القتل والإبادة بأشدّ الأسلحة فتكاً وتدميراً.
أن يقهر جيش العدو مرّة في إثر أخرى، مرّات في فلسطين وتحديداً في غزّة، ومرّات في جنوب لبنان 2000 و2006 فعلامات تحوّل تاريخي واستراتيجي في الصراع العربي/الصهيوني بدايته علامات نجاح ونهايته إنتصار أخير يثبت للصهاينة وداعميهم أنّه لا مكان ولا شرعية وجود لهذا الكيان الغاصب في أرض فلسطين.
ومن علامات التحوّل أنّ شرفاء العالم وأحراره، من شعوبه ومسؤوليه، غرباً وشرقاً جنوباً وشمالاً، تأكّد لهم مرّة أخرى أنّ الكيان الصهيوني قام على الغصب والقتل، بمواصفات تامّة، وهو يعيش منذ إستعماره لأرض فلسطين على التمادي في ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية، وتأكّد لهم تالياً أنّه مصدر البلاء والحروب في هذه المنطقة.
هذا اليقين المتكوّن لدى هؤلاء جميعاً عبّر عن نفسه في المظاهرات الشعبية واليومية التي شهدتها عواصم دول العالم وكبريات مدنه، ومواقف النخب من كلّ المجالات، من برلمانيين ومثقّفين وجامعيين ومحامين وإعلاميين ورياضيين وفنّانين وعاملين في مؤسسات ومنظمات دولية خصوصاً منظمات حقوق الإنسان، ما فضح تواطؤ قسم غير قليل ممّا يسمّى المجتمع الدولي وكسر صمته، حتى داخل الولايات المتّحدة والحزب الديموقراطي الحاكم، عن عدوانية الكيان فخرجت أصوات تنادي بوقف دعمه سياسياً ومالياً.
ومن علامات التحوّل المضافة إلى حساب القضية إنكشاف إزدواجية مواقف الأنظمة والحكومات العربية المعترفة بإسرائيل والمطبّعة معها سرّاً وعلناً، التي لم تحرّكها كفاية قضية القدس ودماء الأبرياء فلم تلغ اتفاقاً ولم تبد إحتجاجاً أمام سفير ولم تسحب سفيراً وتوقف مساراً تطبيعياً ولم تّتخذ إجراء عملياً بنيّة أن تضع حدّاً للعدوان المتمادي. جلّ ما فعلته تحريك آليات التفاوض مع “طرفي القتال” بهدف إنهائه بما لا يؤذي مصالحها، وذلك على قاعدة المساواة بين الضحيّة والجلاّد، وأقصى ما توصّلت إليه هو الإختباء وراء مبادرة مصرية وجدت فقط لإحياء الدور المصري في تسوية العلاقات “الإسرائيلية/الفلسطينية” وتعظيم هذا الدور في مرحلة يعاد فيها ترتيب أدوار بعض الدول الإقليمية ذات التأثير في مجرى الصراع العربي/الصهيوني.
على النقيض من موقف الأنظمة والحكومات العربية جاءت التحركات الشعبية في غير قطر عربي، على تفاوت أعدادها وزخمها، لتثبت مرّة أخرى أنّ القضية الفلسطينية هي القضية المركزية لدى الأمّة وأنّ فلسطين ما برحت في حضن مرجعيّتها القومية والشعبية.
أمّا أبناء القضيّة وأهلها الشرعيون سجّلوا في حسابها أنّ التشبّث بخيار الكفاح المسلّح هو السبيل الوحيد والمتاح للتحرير والوحدة فالمقاومة المسلّحة تجمع والمفاوضات مع عدو لا يفهم إلاّ لغة السلاح تفرّق ما يعني تعزيزاً لا يخطئ لصوابية خيار المقاومة ورفضاً لمفاوضات بلا أفق أو مستقبل وما يعني تالياً إمكان لا بل وجوب ترميم جبهات التصدّي بالسلاح للعدوان الصهيوني على كامل التراب الفلسطيني.. لقد أثبتت ترسانة الصواريخ التي تمتلكها المقاومة في غزّة أنّها سلاح فعّال ورادع ويمكن تحويله إلى سلاح إستراتيجي في إحداث توازن الرعب فالمستعمرات كافة لم تعد في مأمن من قوّة هذا السلاح وفاعليته.
أسبوع من توجيه الصواريخ إلى عمق الكيان أرعب المستوطنين وزادهم قلقاً على مصيره ما حدا كثيرين من أهل السياسة والإعلام والتاريخ الإسرائيليين أن يضعوا هذا المصير في دائرة الشك لا بل في حتمية الزوال، وتعالت الأصوات الداعية إلى حزم الحقائب والإستعداد للرحيل المعاكس.
هذا واحد من الأبعاد الإستراتيجية الوجودية التي سجّلتها نجاحات هذا الأسبوع.
أمّا الأسئلة الإستراتيجية الناتجة عن تلك النجاحات فمنها ما هو موجّه للجانب الفلسطيني ومنها ما هو موجّه للجانب الإسرائيلي:
هل نأمل فعلاً بتعزيز الوحدة الفلسطينية وإنهاء الإنقسام السياسي-الجغرافي بصورة نهائية؟
هل أنتم أيّها الإخوة الفلسطينيون، بكلّ فصائلكم، مؤمنون فعلاً بأنّ الكفاح المسلّح هو الطريق الصحيح للتقدّم في اتّجاه الدولة الفلسطينية على كامل التراب الوطني الفلسطيني من النهر إلى البحر وتأبيد القدس عاصمة لها؟
أأنتم قادرون فعلاً على توظيف نجاحات هذا الأسبوع الذي دفعتم ثمن نضالاته دماً غالياً جداً لمضاعفة قوّة المقاومة وتوحيد الرؤيا والموقف بين جميع الفصائل وإعادة هيكلة منظّمة التحرير؟
هل نأمل حقيقة في أن تتحوّل نضالات هذا الأسبوع من هبّة أو انتفاضة إلى ثورة حقيقية تتخلّص نهائياً من تبعات التعامل التفاوضي والأمني مع العدو؟
أمّا ما هو مطروح إستراتيجياً على حكومة الكيان فهو الآتي:
أليس له أن يعيد حساباته في عدم اعترافه بحقوق الشعب الفلسطيني كاملة فوق أرضه كلّ أرضه؟
هل هي قادرة على الإستمرار في حروب الإبادة وفي ذهنها أن شطب شعب من التاريخ مسألة سهلة؟ ألا تعتقد أن التاريخ قد يرتدّ عليها بما اشتهت لشعب جبّار؟
هل ستقرأ جيّداً تحوّلات المرحلة وما قد تجلبه عليها من ويلات قد تنتج عن إنشاء المستعمرات بدل تفكيكها وتهويد القدس والإستيلاء على الضفّة؟
ألم تتعلّم من دروس الماضي والحاضر أنّ الرهان على الضعف العربي والدعم الغربي حالتان غير دائمتين في عالم تتبدّل فيه المصالح وتعود فيه كلمات الفصل للشعوب في تدبير شؤونه؟
هل ما زالت تعتقد أن ترحيل الفلسطينيين من داخل الكيان مسألة وقت أو قرار حكومي؟
أتعتقد في ضوء ما يشهده العالم من تبدّلات في موازين القوى والمصالح الدولية أنّه بإمكانها الإحتفاظ بالوظيفة الأمنية الإمبريالية التي أنشئت من أجلها؟
هل ما زالت مصرّة على المضيّ قدماً في بناء الجدران العنصرية؟ ألا تدرك أنها ستلقى موتها الحتمي داخل “القلعة”؟
ألا تعي أنّ المكاتب أو الممثّليات أو السفارات الإسرائيلية في عدد من عواصم الدول العربية لا تؤمّن لها لا سلاماً ولا أمناً؟ كذلك الأسلحة الأميركية المتطوّرة.. لا هذه ولا تلك ترعب الشعوب العربية ما دامت مؤمنة بقضيتها المحقّة والمركزية.
ألا تتحسّب في ايّ لحظة وبضغط من وعي الشعب الأميركي لمدى الأذى المادي والمعنوي الذي تلحقه بها سياسات الدعم اللامشروط لإسرائيل أن يحدث تغيير فاصل وحاسم قد يفضي إلى تعديل في تلك السياسات فتجنح عن معاملتها دولة إستثنائية لا تسري عليها أحكام القانون الدولي؟
بالأمس كنّا نقول: لا سياسة لأميركا في المنطقة بل هي تنفّذ فيها سياسة إسرائيل فهل بات من الممكن بدءاً من اليوم إلتقاط إشارة إلى أنّ تمايزاً ما سيبدأ بالبروز بينهما؟
هذه الأسئلة وغيرها كثير قد تدفع تطورات الميدان في فلسطين إلى مقاربة الأجوبة عنها بواقعية وموضوعية أشدّ وثوقاً ممّا كان متوافراً لدينا حتى بداية الأسبوع الماضي.. فلننتظر..












