منذ أن انفجرت أزمة سد النهضة الإثيوبي في العام 2012 كتهديد جاثم ذي أبعاد في اتجاهات شتى، منها تلك المخاطر التي يحملها على الأمنين المائي والغذائي لكل من مصر والسودان، والتي تتعداها في الحالة الأولى لتصل إلى حد التهديد الذي يطول الاستقرار إن لم يكن الوجود أقله بشكله الراهن، إذ لطالما شكل استمرار جريان النهر حالة من الاستقرار فرضت نوعا من المركزية على الحكم السائد في وادي النيل على امتداد المراحل الممتدة لآلاف السنين، نقول منذ أن انفجرت تلك الأزمة وأديس أبابا تستنسخ أسلوباً في المفاوضات على الطريقة الإسرائيلية، ويقوم ذلك الأسلوب على استمرار دوران عجلة التفاوض ضماناً لعدم إحراج الحلفاء، ولعدم تبلور موقف دولي من النوع الضاغط على مسيرتها في تلك المفاوضات، لكن في الآن ذاته ينهج نحو إحداث تغييرات ميدانية في واقع السد بطريقة توحي بأن المرامي هي في فرض سياسة الأمر الواقع بالتزامن مع استمرار التفاوض.
في غضون الأشهر الستة الأخيرة كانت وتيرة التصعيد بادية على مسار المفاوضات الذي ترافق مع العديد من التصريحات التصعيدية هي الأخرى، والتي جاءت، في بعض منها، على أعلى المستويات، من نوع تصريح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في آذار الماضي الذي قال فيه إن «أحداً لا يستطيع المساس بحق مصر في مياه النيل»، قبيل أن يعمد إلى التحذير من أن ذلك المساس يشكل «خطاً أحمر» مصرياً، ليختم بالقول: «من يرد أن يحاول فليحاول، ستكون هناك حالة من عدم الاستقرار في المنطقة، ولا أحد بعيد عن قوتنا»، وفي الغضون كان الموقف السوداني يسجل محطات لا تبتعد كثيراً عن الموقف المصري، كان ذلك، كما يبدو، نوعاً من الضغط على أعصاب صانع القرار الإثيوبي الذي بدا متجاهلاً لكل تلك التصريحات، ومؤكداً في الآن ذاته على «أحقية» إثيوبيا فيما هي ماضية إليه، ومن المؤكد أن حسابات أديس أبابا لم يجل في خاطرها استعداداً، أياً يكن نوعه، للتراجع عن قرارها القاضي بإتمام المرحلة الثانية من ملء السد شهر تموز الجاري.
يوم أول من أمس الإثنين 19 تموز، يعلن وزير الري الإثيوبي سيلشي بقلي في تغريدة على تويتر التالي: «تمت عملية الملء الثاني لخزان النهضة، وهذا يعني أن لدينا كمية المياه اللازمة لتشغيل التوربينات»، ثم تلا ذلك تغريدة لرئيس الحكومة الإثيوبي آبي أحمد هنأ فيها الشعب الإثيوبي بنجاح التعبئة الثانية للسد، وبغض النظر عن نجاح العملية من عدمها، حيث أشارت تقارير للعديد من الفنيين المصريين والسودانيين إلى التشكيك بالتصريحات الإثيوبية، وأن العملية لم تستطع تخزين أكثر من 3 مليارات متر مكعب من المياه، في حين كانت الخطة تقتضي النجاح في تخزين 13.5 مليار متر، نقول بغض النظر عن نجاح أديس أبابا في مشروعها، أو عدم نجاحها فيه، فإن مكمن الخطر ليس هنا، وهي إن لم تنجح اليوم فلسوف تنجح غداً، مكمن الخطر يتجلى في أن إثيوبيا تنطلق في ممارساتها من موقع قوة يعتد بدعم إقليمي، وكذا دولي بطيف واسع، وهو يعتد بلحظ دقيق لـ«العزلة» المصرية التي ظهرت جلية على امتداد الأزمة، فدائرة المستفيدين من تآكل الدور المصري راحت تتسع، والتوسعة إياها إذا ما تنامت أكثر ستفرض على القاهرة ضرب موعد جديد ستكون من خلاله بانتظار تلاشي عوامل القوة القادرة على حرف مسارات الأزمة، ومع الفعل سيصبح الثقل البشري الذي تمتلكه مصر عبئا كبيراً على الدور بعد أن كان يمثل في السابق عنصر دعم كبيراً لهذا الأخير.
تدرك أديس أبابا أن مصر الخمسينيات والستينيات هي غيرها مصر التي تلت مرحلة السبعينيات وصولا إلى مصر اليوم، ولربما من المفيد هنا سرد مثال يكاد يكون كافياً لرسم صورة شافية للمتغيرات الحاصلة على مصر فيما بين تلك المرحلتين، يروي الكاتب الناصري عبد الله السيناوي في منشور له، أن نيلسون مانديلا كان قد ذهب في أحد الأيام، التي نرجح أنه كان في العام 1969، برفقة محمد فائق الذي اعتمده عبد الناصر كعنصر ارتباط مع حزب المؤتمر الجنوب أفريقي الذي كان يناضل لإسقاط حكم «الأبارتيد» العنصري، لملاقاة جمال عبد الناصر في منشية البكري، وما حصل أن الأخير كان مجتمعاً إلى الرئيس اليوغسلافي جوزيف بروز تيتو، وما جرى هو أن اللقاء طال، مما اضطر بمانديلا للمغادرة كيلا يتأخر عن الطائرة التي ستقله إلى بلاده، غادر مانديلا بعد أن حمّل مرافقه سلامه للزعيم المصري وتأكيده على عودة قريبة للقاء لم يقدر له أن يحصل، لكنه زار ضريحه بعد وفاته واصفا إياه في تلك الزيارة بـ«زعيم زعماء إفريقيا»، وفي نصف المشهد الآخر من رواية السيناوي، أن مانديلا الذي أشرف، وكان قد غادر السلطة، على مشاغل تقديم بلاده بطلب لاستضافة بلاده لتصفيات كأس العالم، التي كانت مصر قد تقدمت أيضاً بطلب مماثل لاستضافتها، وما جرى وفقا لرواية محمد حسنين هيكل التي سمعها بنفسه إبان لقائه بالزعيم الجنوب إفريقي أيار 2004، هو أن مانديلا كان قد علق على المنافسة المصرية مع بلاده بالقول: «شوية كراكيب» الذي كان جارحا لناقل الرواية الذي كان يدرك أنه توصيف واقعي أكثر منه محاولة للنيل من موقع مصر الذي تضاءل في مرحلة حسني مبارك قبيل أن يتلاشى تقريباً في مرحلة «الربيع العربي» التي أضافت لفعل الانكفاء الحاصل ما بعد اتفاقيتي كامب ديفيد الأولى والثانية فعلا قاد نحو تلاشي الدور بفعل تثقيل الملف الداخلي على أي شيء آخر سواه، الأمر الذي مثل من الناحية العملية انقلاباً على حقيقة راسخة هي أن مصر كانت، على مر مراحل التاريخ، دولة دور، وضلوعها بأدائه كان يحدد، إلى درجة بعيدة، مدى الثقل الذي تتمتع فيه، بل مدى قدرتها في التأثير على ما يدور حولها.
في أعقاب إعلان أديس أبابا عن إتمام المرحلة الثانية من ملء السد، أصدرت السفارة الإسرائيلية بالقاهرة بياناً نفت فيه ضلوع كيانها بتلك الأزمة، رداً، كما جاء في البيان، على تقارير إعلامية كانت قد أشارت إلى ذلك الضلوع، والفعل من حيث النتيجة يعطي انطباعاً هو أقرب إلى تأكيد ذلك الضلوع بدلاً من نفيه، ففي السياسة نادراً ما يجري الذهاب نحو الرد على تقارير إعلامية، إلا إذا كانت هذي الأخيرة تحمل في طياتها «شوكة» تنخز القائمين بعملية الرد.