شكَّلت الأحكام السعودية الصادرة بحق معتقلين فلسطينيين بتهمة دعم المقاومة الفلسطينية صدمة لعائلاتهم ولكل الأوساط الفلسطينية بعد مرور عامين ونصف العام على اعتقالهم، إذ صدرت بحقهم أحكام أقصاها 22 عاماً وأدناها 3 أعوام.
أبرز هؤلاء المعتقلين ممثل حركة “حماس” السابق في السعودية محمد الخضري، الذي تجاوز عمره 80 عاماً، في خطوة غير مسبوقة جاءت بعد تحولٍ كبيرٍ في المواقف السعودية تجاه القضية الفلسطينية منذ أن أصبح محمد بن سلمان ولياً للعهد، حتى أصبحت المواقف السعودية تجاه المقاومة الفلسطينية أكثر سلبية وحدّة، إذ ينكشف أن الموقف السعودي في مثل هذه الخطوة يتسق مع أجندات خارجية أميركية وإسرائيلية تنصب العداء للمقاومة والقضية الفلسطينية، فمن العار أن يحاكم الفلسطيني بتهمة نصرة قضيته أو مقاومة شعبه، إذ أصبح دعم المقاومة “جريمة”، فيما أصبح دعم “إسرائيل” واجباً في زمن التردي والمجاهرة بالفجور من قبل أنظمة رجعية استبدادية كالنظام السعودي.
لم يعد ينطلي على أحد من الشعب الفلسطيني أية مواقف يمكن أن يسمعها بعد ذلك من النظام السعودي الرسمي تجاه القضية الفلسطينية، فمثل هذه الأحكام السياسية يكشف زيف الموقف السعودي في دعم الشعب الفلسطيني. حتى الشعارات ما عاد ممكناً إطلاقها بادعاء الدعم للقضية الفلسطينية، إذ تعد هذه المحاكمات تخلياً واضحاً عن تبني القضية الفلسطينية ودعمها، بل تفضح التقرّب السعودي تجاه “إسرائيل”، فثمة دلالات وأهداف مكشوفة من حيث جوهر القضية والتوقيت والرسائل يمكن أن تسجل أمام الأحكام الجائرة التي صدرت عن محكمة سعودية بحق فلسطينيين لم يخلّوا أبداً بالأمن الداخلي السعودي، وكل ما قاموا به أنهم عملوا على حشد الدعم لصالح المقاومة الفلسطينية.
وفق معلومات خاصّة توفّرت مؤخراً، سبقت إصدار هذه الأحكام الجائرة بأيام، حاول النظام السعودي إعادة خيوط العلاقة مجدداً مع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، لكن بوجه وأسلوب جديد يتمثل بإسناد قناة التواصل للمخابرات السعودية وتحويل القضية الفلسطينية من قضية سياسية إلى قضية أمنية، خلافاً لما كانت عليه العلاقة سابقاً عبر الخارجية السعودية أو الديوان الملكي السعودي، إذ يعدّ ذلك تحولاً غريباً غير مقبول من المقاومة الفلسطينية، وقوبل ذلك بالرفض التام، فالقضية الفلسطينية بشعبها ومقاومتها وقواها الحية ومحور مقاومتها وبعمقها الإسلامي ليست عبئاً إلا على من ارتضى السير في ركب أميركا و”إسرائيل”. في المقابل، إن من يدعمها ويقف إلى جانبها ينَل شرفاً وعزةً وكرامةً، بعيداً عن محاولات التقزيم والنظر إليها كملف أمني خالص، كما يريد البعض، فقضية كفلسطين بتضحياتها أكبر من كل المزايدين.
من حيث التوقيت، يمكن قراءة إصدار هذه الأحكام أنها جاءت رداً على فشل جهود عودة خيوط العلاقة بالشكل الذي تريده السعودية كخطوة انتقامية، ناهيك بأنها جاءت رداً على زيارة وفد رفيع المستوى من المقاومة الفلسطينية، ممثلاً بإسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”، الذي استهلّ دورته الجديدة بعد إعادة انتخابه مؤخراً بحضور حفل تنصيب الرئيس إبراهيم رئيسي، والحفاوة الكبيرة التي قدّمتها طهران خلال الزيارة في منصات الشرف، واستقبال رئيسي بعد ذلك وفداً من الحركة بقيادة هنية بشكل منفرد، والتأكيد على استمرار السياسة الخارجية الإيرانية الثابتة في دعم الشعب الفلسطيني ومقاومته.
من حيث الرسائل، فإنها تدلّ على أنّ ابن سلمان يواصل تهيئة الظروف وتوطئة المناخات لتسهيل الخطوة الأولى على طريق التطبيع “السعودي الإسرائيلي”. كما أنّ هذه الأحكام بمثابة رسالة استرضاء من ابن سلمان للإدارة الأميركية، على أمل إغلاقها الملفات ضده، وغض الطرف عن الجرائم التي ارتكبت خلال السنوات الماضية، ولا سيما ملفات حقوق الإنسان العالقة وقضية مقتل الكاتب السعودي خاشقجي.
التماهي مع الموقف الإسرائيلي الأميركي في ملاحقة المقاومة، وتجفيف كل منابع الدعم أمامها، ووصمها بالإرهاب، وهو وصف لا يستخدم إلا في جهاز “الشاباك” الإسرائيلي الذي لم يكفّ عن ملاحقة كل من يدعم أو يساند مقاومة الشعب الفلسطيني، خطوة لا يمكن أن تفسر إلا أن النظام السعودي بهذه المحاكمات يقوم بدور الوكيل الأمني للاحتلال والإدارة الأميركية التي تصف المقاومة وقيادتها وتصنفهم في قائمات “الإرهاب”.
هذه الأحكام تشكّل إذعاناً صريحاً لمطالب “إسرائيل”، وتعبّر بشكل واضح عن مدى الانحدار الأخلاقي الذي وصل إليه آل سعود في التعامل مع ملف القضية الفلسطينية. ثمة قاعدة مهمة نستحضرها هنا، وهو أياً كان الخلاف السياسي بين المقاومة الفلسطيني والنظام السعودي، فمثل هذه الأحكام تعتبر جائرة وظالمة ما دامت الاتهامات المطلقة لا تمسّ الأمن القومي السعودي.
من المشاهد اللافتة في حفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي حضور وفدين، أحدهما سعودي، والآخر إماراتي. وقد تحدث أعضاء الوفدين عن سعيهم لتعزيز العلاقات الاستراتيجية مع إيران، لكن المستغرب في الوقت ذاته استمرار انتقاد هذه الدول لحركة “حماس” وتقاربها مع إيران. وهنا يبرز أن الهدف الكامن خلف هذه السياسة التي تتبعها هذه الأنظمة الوظيفية، ليس العلاقة مع إيران، بل المستهدف الحقيقي هو رأس المقاومة في فلسطين خدمة للمشروع الصهيوأميركي في المنطقة.
هذه الأحكام تحسم بشكل راسخ خارطة التحالفات في المنطقة، بين محور تقوده إيران نجح في رسم معالم محور قوي له، بوصلته فلسطين والقدس، وهو يقدم الدعم الكامل للمقاومة الفلسطينية، وسيتعزز أكثر في عهد الرئيس رئيسي، ومحور ينصب العداء، ويتساوق مع أهداف “إسرائيل”، ويعمل على تحقيق أجندتها الأمنية. ثمة فارق “شاسع وكبير”.
من المفارقات التي يجب أن نستحضرها في هذا الوقت بالتحديد، أنّ الفلسطيني حين يتعرَّض في دولة سنية، كالسعودية، للاعتقال والمحاكمة بتهمة الإرهاب، ثم يعامل هذا الفلسطيني نفسه معاملة المواطن الذي يتمتع بكامل الحقوق في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ويحصل أيضاً على كل أشكال الدعم لنصرة قضيته، وتُحتضن قيادات مقاومته، فليس من حقّك أن تفرض معايير أو تطلب معاداة إيران لمجرد أنّها دولة شيعية، بل من الضّروري التوقّف عند هذا المشهد الذي يقدم حالة التمايز في المواقف بين “الداعم والمفرط المتآمر”.
القضيّة الفلسطينيّة بحاجة إلى دعم وتأييد كلّ إنسان حر في هذا العالم بعيداً عن معيار المذهبية والطائفية، والمعيار الأهم الذي من الضروري أن يلتزم به أي فلسطيني، أياً كان موقعه، هو مدى القرب من القضية الفلسطينية ودعمها وإسنادها. أما الذي يعادي الشعب الفلسطيني ويتنكَّر لدوره تجاه القضية الفلسطينية ويعمل لأجل الوصول لرأس المقاومة والقضاء عليها وتجسيد لحظة التطبيع العلني مع “إسرائيل”، فلا يتشرف به الشعب الفلسطيني ولا مقاومته، ولن يسجل في صحيفته إلا العار والخيانة لفلسطين والقدس.
شرحبيل الغريب