قال أحد الحكام السابقين في دول المنطقة من حلفاء الولايات المتحدة الأميركية يوماً: «على أعداء واشنطن أن يخافوا منها، وعلى أصدقائها أن يخافوا منها أكثر».
يختصر هذا التوصيف بدقة حالة الكثيرين من حكام أنظمة المنطقة والعالم الذين راهنوا على ثبات حكمهم واستقرار بلادهم نتيجة الاتكال على دعم واشنطن لهم. في حين أن الإدارات الأميركية المتعاقبة لم تتورع في معظم الحالات عن التفرج على هؤلاء الحكام وهم يتدحرجون نزولاً، بعدما تكون هذه الإدارات قد استهلكتهم سياسياً كما استنفذت كل طاقات بلادهم الاستثمارية وبالتالي انتفت أدوارهم.
أما في حال فوجئت إحدى هذه الإدارات بانقلاب دراماتيكي على الحاكم الحليف أو بتسارع وتيرة ثورة ما لم تكن بعد قد تهيأت لاستيعاب تداعياتها، فإن جُلَّ ما تقوم به من ردّة فعل هو التبرؤ من هذا الحاكم والبحث عن وسطاء لتأمين تواصلٍ مخابراتي يحفظ ما تبقى من مصالح واشنطن في البلد المعني.
في الحالة الأفغانية الأمور تجاوزت كل السيناريوهات الأميركية التقليدية في التعاطي مع الحكام والأنظمة الحليفة. ذلك أن التحرك الأميركي لمواجهة التدخل السوفييتي في أفغانستان العام 1979 كان وفق توصيف واشنطن يهدف إلى التخلص من «الشيوعية» آنذاك والحد من تغلغلها في دول آسيا، وفي سبيل تكريس منظومة قيم سياسية-إنسانية قائمة على تعزيز حقوق الإنسان وحماية الحريات العامة وما إلى ذلك من مكونات الوصفة الأميركية التي كانت وما زالت معتمدة من أجل نقل البشرية إلى تبني المفهوم «الحضاري» الذي صنعته مراكز الأبحاث والدراسات الدعائية الأميركية!
أما في الواقع فإن هذا التحرك كان يرمي إلى تأسيس حالة جاهلية تكفيرية إرهابية بلباس إسلامي، شكّلت الذراع القاتلة التي استخدمتها المؤسسة العسكرية والأمنية الأميركية في تفجير حروب عرقية وطائفية ومذهبية طالت معظم دول العالمين العربي والإسلامي، كما طالت الولايات المتحدة الأميركية نفسها من خلال تفجير برجي مدينة نيويورك الشهيرين.
ولا يصحّ اليوم أن يكون خافياً على أحد أن تنظيم «المجاهدون» الذي أسسته وكالة الاستخبارات الأميركية CIA بالتعاون مع أجهزة استخبارات عربية وإسلامية لمقارعة الوجود الشيوعي في أفغانستان ومحيطها، إضافة إلى استباق المفاعيل الإستراتيجية لانتصار الثورة الإسلامية في إيران، كان اللبنة الأولى في بناء حركة «طالبان» التي شكّلت الحاضنة التعبوية والتدريبية والتجهيزية لتنظيم «القاعدة»، هذا التنظيم الذي شكّل بدوره أيضاً الملهم الأبرز والرافد الأساس لتنظيم «داعش» وما تفرّع منه من مجموعات وعصابات إرهابية إجرامية سفكت الكثير من دماء العرب والمسلمين، وعملت على زرع الفتنة والصراعات بينهم.
اليوم وبعد ثلاثين عاماً من الوجود والنفوذ الأميركي في أفغانستان، قرّرت الإدارة الأميركية «الديمقراطية» الانسحاب من هذا البلد تاركة كالعادة النظام الذي عملت واشنطن على تنصيبه هناك يواجه نهايته التقليدية، والأهم والأخطر تاركة الشعب الأفغاني الذي وعدته بالحرية والديمقراطية والانفتاح ليلقى مصيراً أسود على أيدي تلك العصابة الجاهلية من جديد.
لكن الأدهى أن هذا الانسحاب جاء بعد مفاوضات بين حركة «طالبان» ومسؤولين أميركيين في قطر، مما يعني أنه إقرار مسبق بالسماح لطالبان بالاستيلاء على السلطة في كابل من جديد، وما الاجتياح السريع الذي قامت به حركة «طالبان» للمدن والمناطق الأفغانية بالتزامن مع الإعلان الأميركي عن إخراج ما تبقى من الدبلوماسيين والموظفين الأميركيين من هناك، إلا خير دليل على التنسيق المدروس لتمكين «طالبان» من بسط سيطرتها وسلطتها على الأراضي الأفغانية كافة.
إنما الأمر الأكثر خطورة فيتمثل في إعادة إنتاج وطن لتصنيع الإرهابيين، وطن يشكّل مأوىً لهم وقاعدة انطلاق لتحركاتهم المقبلة على مساحة المنطقة والعالم، وبالتالي بات على الكثير من دول المنطقة وفي مقدمها إيران وباكستان والسعودية أن تتحسس موطئ أقدامها، كما على قوى دولية كالصين وروسيا والهند أن تأخذ بعين الاعتبار الرعاية الأميركية المتجددة لأفغانستان «الطالبانية»، والأهم للوظائف التي سيكون مطلوباً منها أن تؤديها في مواجهتها وعلى امتداد القارة الآسيوية.
يبدو أن الانسحاب الأميركي العسكري المباشر من مواقع كثيرة في المنطقة والعالم هو مقدمة لإعادة صياغة وقائع ترسمها بالأذرع المستعادة من زمن الحرب الباردة.