بقلم المؤرخ الدكتور محمود السيد-المديرية العامة للآثار والمتاحف والإعلامي محمد عماد الدغلي
للجولان تاريخ حضاري وثقافي عريق يؤرخ منذ العصر الحجري القديم الأدنى الباليوليت, وتوثق اللقى الأثرية المكتشفة في مئة وسبعين موقعا أثريا في هضبة الجولان سكن الإنسان في هذه الأرض الطيبة منذ العصر الحجري القديم وحتى يومنا هذا دون انقطاع بدليل العثور على بقايا أدمية وأدوات حجرية.
وتؤكد اللقى الأثرية المؤرخة بعصور ما قبل التاريخ والتي عثر عليها في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الواحد والعشرين الميلاديين والمكتشفة في العديد من المواقع الأثرية في سورية والهند وإندونيسيا وجنوب أفريقيا وفرنسا والمغرب أن الفن التشكيلي احتل مكانة عظيمة في حياة البشر منذ مئات آلاف السنين وأن سورية في ضوء المعطيات الأثرية الحالية هي الموطن الأول في العالم الذي انطلق منه فن النحت.
والنحت هو أحد فروع الفن التشكيلي الذي برع فيه النحاتون السوريون واعتبروه فنا يعانق فكرهم ويلامس رؤيتهم ويشعرهم بآدميتهم وكان لهم فيه دور الريادة عالميا منذ أقدم العصور وتوثق اللقى الأثرية السورية عظمة الحضارة السورية وأصالتها وتميزها وإبداع حرفيها وفنانيها في صنع ونحت ورسم كل ما هو فريد ومميز عالميا.
واعتمد النحاتون في سورية على طريقة اللمس والحركة من أجل الوصول إلى الشكل النهائي واستخدموا فن الرسم من أجل وضع الخطوط العريضة للشكل النهائي للمجسم وفن الهندسة والفن التجريدي من أجل قياس أبعاد المجسم المراد نحته وفق قوانين التوازن والإيقاع والانسجام، والتأثير المتبادل في الوسط المحيط وكان الهدف من النحت إيصال فكرة معينة لمن حولهم من الناس، ففن النحت من أكثر الفنون انتشارا وتعبيرا عن الجو المحيط مع اختلاف غرض الاستخدام، والإنسان أقدر على التعبير بالنحت عنه عن التعبير بالرسم.
في البداية وقبل الخوض في تفاصيل الأدلة الأثرية التي توثق بالدليل المادي أن الجولان السوري هو الأرض البكر لظهور أولى محاولات الفن التشكيلي في العالم لا بد لنا من أن نتفق حول تاريخ تقريبي لظهور الانسان واستقراره في سورية لأن الاستيطان والاستقرار هو شرط رئيسي لظهور الفن التشكيلي في أي بقعة من هذا العالم. ويستند في عملية التأريخ إلى البقايا الأثرية الأدمية وما أنجزه الانسان من أدوات حجرية ومواقع سكن وإقامة.
المناخ المعتدل والبيئة الغنية وتوفر خامات الصوان في سورية هي العوامل الرئيسية التي دفعت الإنسان القديم الى الاستقرار فيها منذ الزمن السحيق. ويعتبر المناخ المعتدل من أهم شروط الاستيطان البشري وتؤكد نتائج الدراسات العلمية الحديثة أن تحسن المناخ في سورية قد أثر بشكل كبير ومباشر على تطور تقنيات وانتاج الأدوات الحجرية.
بخصوص البقايا الأثرية الآدمية والتي لم يصلنا منها إلا الجزء اليسير ومع ذلك هي تؤكد أن الانسان من جنس الهومو-أوركتوس والنياندرتال استقرا في سورية منذ العصر الحجري القديم وأقدم هذه البقايا في ضوء المعطيات الأثرية الحالية اكتشفت في موقع بئر الهمل في البادية السورية في محافظة حمص وتمثل أقدم بقايا عظمية لجمجمة إنسان الهومو-أوركتوس مكتشفة في منطقة الشرق الأوسط وتؤرخ بالفترة الواقعة ما بين 600-500 ألف عام قبل الميلاد.
وفي موقع الندوية الأثري اكتشف أيضاً أهم عظم جداري لجمجمة إنسان الهومو-أوركتوس مكتشف في منطقة الشرق الأوسط ويؤرخ بنحو 450 ألف عام ق.م.
وفي العصر الحجري القديم الأوسط المؤرخ من 200- 40 الف عام ظهر في سورية إنسان النياندرتال الذي انتقل من السكن في مواقع مؤقتة إلى مواقع دائمة واستخدام النار والتقنية اللفلوازية الموستيرية في صناعة أدوات حجرية أكثر تطورا من إنسان الهومو أوركتوس واكتشف في سورية في كهف الديدرية في جبل سمعان شمال حلب أكمل هيكل عظمي والأفضل حفظاً من نوعه حتى اليوم لإنسان النياندرتال في العالم, يؤرخ بنحو 100 ألف-120 ألف عام ق.م وقد عثر عليه في الطبقة الثالثة عشرة، على عمق 1.5 متر تقريباً من سطح الأرض، ويعود إلى طفل عمره 2,5-3عام تقريباً، دفن في حفرة مستلقياً على ظهره ويداه ممدودتان وقدماه مثنيتان وتحت رأسه بلاطة حجرية، وعلى صدره من جهة القلب أداة صوانية عليها مؤشرات عملية دفن شعائري تؤكد أن إنسان النياندرتال هو أول إنسان دفن موتاه ويمثل ذلك أقدم ما عرف في العالم عن موضوع الدفن الجنائزي.
بخصوص الأدلة الأثرية على الاستيطان والسكن، لدينا أرضية سكن تؤرخ بالعصر الآشولي الأوسط، اكتشفت في موقع الميرة الأثري وأرخت حسب الطريقة المغناطيسية القديمة التي تعتمد على قياس التأثير المغناطيسي للأجسام المغناطيسية التي تشكل جزءا من الموقع الأثري أو دراسة سجل المجال المغناطيسي للأرض في الصخور بنحو 700 ألف عام ق.م.
وكذلك عثر في موقع اللطامنة الأثري في محافظة حماة على بقايا معسكر ذي أرضية سكن سليمة مؤرخ بنحو نصف مليون عام ق.م أو أكثر بقليل حسب نتائج طريقة التحليل باليورانيوم ثوريوم التي تعتمد على قياس نسبة تركيز اليورانيوم ثوريوم في صخور القشرة الأرضية لتحديد عمر الحفريات الادمية وشيد سكان اللطامنة في حوض العاصي لأول مرة في العالم خارج القارة الأفريقية أكواخا بسيطة من الأغصان والجلود ودعمت الجدران بواسطة حجارة كبيرة تؤرخ بنحو نصف مليون عام وتؤكد الأدلة الأثرية في اللطامنة استخدام الإنسان للنار في سورية منذ نصف مليون عام.
وبنيت أكواخ في موقع القرماشي جنوب اللطامنة الذي حافظ على أرضية سكن سليمة سكنت من قبل الصيادين منذ نحو 300 ألف عام، فبنيت الأكواخ البسيطة واستخدمت النار وهذا ما أكسب الموقع صفة أحد المواقع النادرة في العالم.
وفي سورية في موقع أم التلال في حوض الكوم بتدمر أحد المواقع الأثرية النادرة في العالم للاستيطان في العراء اكتشف أطول تسلسل أثري معروف في العالم امتد لمدة 300 ألف عام تعاقبت فيها طبقات أثرية تبدأ من العصر الحجري القديم وحتى ظهور الزراعة في العصر الحجري الحديث.
وفي الفترة الواقعة ما بين 250 ألف-200 ألف عام ق.م أي نهاية العصر الحجري القديم الأدنى وبداية العصر الحجري القديم الأوسط، مرحلة الانتقال من إنسان الهومو-أوركتوس إلى إنسان النياندرتال الذي انتقل من السكن في مواقع مؤقتة كما كان الحال عليه في موقع اللطامنة إلى مواقع دائمة كما هو الحال في الملجأ الأول المكتشف في يبرود والذي استمر فيه السكن لأكثر من 150 ألف عام.
بخصوص الأدوات الحجرية والتي تؤكد استمرار السكن والاستيطان في سورية منذ العصر الحجري القديم وإلى يومنا الراهن دون انقطاع اكتشف على سبيل المثال في موقع ست مرخو الأثري في محافظة اللاذقية فأس حجري بدائي الصنع من حجر الصوان مؤرخ بالمرحلة الثانية من العصر الآشولي المبكر بحوالي مليون ومئتي ألف عام, صنع وفق نمط تقنية تصنيع الأدوات الحجرية في حضارة الدوفاي في تنزانيا وهي أقدم ثقافة بشرية في العالم والتي شاع استخدامها في الفترة الواقعة ما بين 1,4 مليون-1,3 مليون سنة, تغطي القشرة الجزء الأكبر منه وهو ثقيل نوعاً ما, تم طرقه وتشذيبه بواسطة الحصى النهرية الموجودة في المنطقة واستخدم بشكل رئيسي في الكسر كما وظف أيضا في القطع والقلع والكشط وهو محفوظ حالياً في متحف دمشق الوطني.
وأقدم سلاح حجري مكتشف حتى الآن في منطقة الشرق الأوسط عثر عليه في موقع الميرة في السوية الأثرية الآشولية ويؤرخ في الفترة الواقعة ما بين 1مليون-800 ألف عام وهذا الاكتشاف يسمح بفهم تطور تقنيات صناعة السلاح الحجري في العالم في عصور ما قبل التاريخ.
وفي موقع اللطامنة الأثري اكتشفت ناقوبة مصنوعة من حجر الصوان تؤرخ بحوالي خمسمائة ألف عام ق.م وهي الأقدم في منطقة الشرق القديم ومحفوظة حالياً في متحف دمشق الوطني… الخ.
ما سبق ذكره من إنجازات حضارية عالمية يؤكد أنه ليس بكثير على الشعب السوري أن يكون أول من نحت تمثالاً بشرياً في العالم فسورية بالأدلة الأثرية والنقوش الكتابية واللقى الأثرية ومواقع الإقامة والسكن هي مهد الحضارات والأرض البكر في العالم لظهور أولى محاولات الفن التشكيلي بالعالم.
اكتشف التمثال عام 1981 في موقع أثري في منطقة بحيرة رام في الجولان السوري المحتل خلال أعمال التنقيب الغير شرعية التي مارسها الكيان الصهيوني الغاصب. وقد عثر على التمثال بين سويتين أثريتين من البقايا البركانية أرخت السوية الأعلى والأحدث بحوالي233000 عام قبل الميلاد في حين أرخت السوية الأدنى والأقدم بأكثر من 700000 ألف عام قبل الميلاد.
صور التمثال بشكل أنثوي ونحت على قطعة حجر بركاني محلي ويبلغ طوله 3,5 سم وعرضه 2,5 سم وسمكه 2,1 سم.
أثبتت التحليلات المجهرية أن التمثال لم يكن نتاج تآكل طبيعي بل تم تشكيل التمثال بشكل متعمد بواسطة الأيدي البشرية بهدف تعديل شكله الطبيعي وإنتاج تصوير بشري وأحدثت الشقوق بواسطة أداة مصنوعة من حجر الصوان ذات رأس حاد استخدمت أيضا في تشكيل الرأس والذراع وهذا ما يميزها بوضوح عن العلامات التي يمكن حدوثها بفعل العوامل الطبيعية والمناخية. ويلاحظ من خلال إجراء دراسة معمقة لتمثال الجولان وجود تشكيل وتجويف صحيح من نتوء الرأس وآثار واضحة للتجويف والكشط وتجانس نحتي فيما يخص عنق وجسم وذراع التمثال.
ويؤكد اكتشاف تمثال مشابه لتمثال الجولان في المنطقة الأثرية في وادي درعة بالقرب من مدينة طانطان في المغرب العربي لكنه أطول (6سم) وأحدث زمنيا وأكثر تطورا من ناحية الأداة المستخدمة في النحت وأسلوب التعبير عن الأجزاء البشرية حيث عثر عليه بين سويتين أثريتين تؤرخان بين 500000-200000 قبل الميلاد أن تمثال الجولان يمثل أقدم نحت فني تصويري بشري في العالم
الأدلة الأثرية تؤكد أن الجولان جزء لا يتجزأ من الوطن الأم سورية وأن المواقع الأثرية في الجولان ترتبط تاريخيا بالحضارات المتعاقبة في سورية. كذلك قدم الجولان السوري للعالم أدلة أثرية عديدة تنسب إلى إنسان النياندرتال والانسان العاقل وتوثق أن سورية هي مهد الحضارات والموطن الأصيل لفن النحت في تاريخ الحضارة البشرية وهو ما سنتحدث عنه بالتفصيل في المقال القادم.
ما سبق يؤكد أن فن النحت الذي يمثل مظهراً من مظاهر الابداع البشري قد ولد في سورية وقبل أي مكان آخر في العالم وهو الفن الذي لجأ إليه النحات السوري منذ العصر الحجري القديم لتجسيد الأفكار والتعبير عن الذات. ويبرهن تمثال الجولان المؤرخ بالعصر الحجري القديم الأدنى بالفترة الواقعة بين 28000-250000 ق.م والمنسوب إلى الثقافة الآشولية بالدليل المادي الملموس أن فن النحت هو أقدم زمنيا من فن الرسم وأن الجولان السوري وفي ضوء المعطيات الأثرية الحالية هو الموطن البكر لولادته ويؤكد العمر الزمني لتمثال الجولان أن الانسان في العصر الحجري القديم كان قادراً على انتاج وفهم الفن واستيعاب الرمزية والتجريد.