لا تزال ماهيّة الأزمة التي تعيشها كازاخستان ومآلاتها، غير واضحة تماماً إلى الآن، في ظلّ التدهور السريع للأوضاع، وكثرة اللاعبين الإقليميين والدوليين، والذين قد يستغلّون الظروف الداخلية من أجل خلْق واقع جديد في إحدى أهمّ دول آسيا الوسطى وأكبرها. وإذ تتركّز الأنظار اليوم على الدورَين الروسي والأميركي، من زاوية التوتّر المتصاعد بين الجانبَين على أكثر من ساحة، تَبرز تركيا، أيضاً، في هذا المشهد، كلاعب ومتأثّر، يعتقد المراقبون والمحلّلون فيه، خصوصاً المقرّبون منهم من حزب «العدالة والتنمية»، أن ما يجري على الساحة الكازاخية يطاله مباشرة، لاسيّما بعد تأسيس «منظّمة الدول التركية»، والتي يَعتبر هؤلاء أن لا واشنطن ولا موسكو ذاتا مصلحة فيها
فاجأت أحداث كازاخستان الجميع. هذا البلد الكبير بمساحته وثرواته، والذي يحتلّ مكانة استراتيجية في «لُعبة الأمم» في آسيا الوسطى، كان إلى الأمس القريب، أحد البلدان الأكثر استقراراً بين الدول التي تفرّعت من تفكّك الاتحاد السوفياتي. وقد ارتبط اسم كازاخستان باسم رئيسها السابق المطلَق الصلاحيات، نور سلطان نزارباييف، حتّى بعد استقالته، في عام 2019. تباينت القراءات لما جرى والمتسبّبين به، والمستفيدين والمتضرّرين منه. وعلى الرغم من أن الأنظار اتّجهت مباشرة إلى روسيا والولايات المتحدة، باعتبار أنّهما القوّتان الأكبر في العالم وتمرّ علاقاتهما بمرحلة من التوتّر والتشنّج، إلّا أن النظرة إلى كازاخستان من أنقرة، وخصوصاً من وسائل الإعلام الموالية لحزب «العدالة والتنمية»، تبدو مختلفة بعض الشيء، وتطرح الكثير من الأسئلة عن موقع تركيا من الحدث الكازاخي.
يلفت النظرَ أوّلاً ما كتبه يوسف قبلان، ذو الميول الإسلامية، في صحيفة «يني شفق» المؤيّدة لـ«العدالة والتنمية»، إذ وصف الأحداث هناك، والتي تخلّلها تكسير تماثيل نزارباييف، بأنها «أمرٌ مخيف: بنادق توزّع على الناس بسيارات من دون لوحات. والنار تُطلَق من نوافذها على الناس في بيوتهم»، متسائلاً: «هل كانت هذه محاولة لتحريض الناس على الثورة ثمّ التحضير لانقلاب أو تدخّل خارجي؟ ولماذا اتّصلت كازاخستان بروسيا طلباً للمساعدة؟». واعتبر قبلان أن «الظاهر أن الاحتجاجات هي على رفع أسعار الوقود، لكن الحقيقة أن روسيا وضعت الأُسس للتدخّل الخارجي وغزو البلاد من جديد، ومن ثمّ تطلب إدارة كازاخستان النجدة، ليبدو الروس أنهم هم المنقذون للبلاد من الفوضى التي وقعت فيها». ويضيف أن ما رشَح، هو أن موسكو وضعت أربعة شروط لمساعدة كازاخستان، «تؤكّد الشكوكَ بأن موسكو هي التي تقف وراء الأحداث». وهذه الشروط هي:
1- اعتراف كازاخستان بضمّ شبه جزيرة القرم.
2- إعادة الاعتراف باللغة الروسية كلغة رسمية ثانية.
3- السماح لروسيا بإنشاء قواعد عسكرية جديدة في البلاد.
4- منْح الحكم الذاتي للأقلية الروسية.
ورأى قبلان أن «روسيا تلعب لعبتها في آسيا الوسطى لمنْع تركيا من إعادة لمّ شمل دول العالم التركي»، قائلاً: «هذا انقلاب ضدّ تركيا». واستشهد الكاتب بما أوردته صحيفة «لوموند»، التي وصفها بـ«اليسارية»، من أن «الاضطرابات في كازاخستان مخطَّط لها لتكون ضدّ منظّمة الدول التركية»، معتبراً أن «على كازاخستان أن تطلب العون الفعلي من هذه المنظّمة، وليس من روسيا». ولفت إلى أن «منظّمة الدول التركية أعربت عن أهمية الاستقرار والسلام في كازاخستان والتضامن مع هذا البلد، العضو فيها، إلّا أنه لا سلطة لها لمتابعة ما يجري هناك، ولكن كان عليها أن تقاوِم روسيا وتحشرها في الزاوية». كذلك، اتّهم الكاتب، الولايات المتحدة، بـ«محاولة كسْر تركيا من خلال كازاخستان»؛ إذ إن «تعاظُم القوّة التركية يُشعِر الغرب بالذعر، وتأسيس منظّمة الدول التركية، أخيراً، يُعتبر أحد أهمّ المشاريع الحيوية والاستراتيجية في آخر ربع قرن، ولا سيما أن تركيا هي العقل والدماغ والقلب وراء هذا التأسيس». وتابع أن «الدول التركية تخلّصت، بعد الحرب الباردة، من الإمبريالية السوفياتية، لكن في الشكل ليس إلّا؛ فالجمهوريات التركية واقعة تحت الاحتلال الذهني لروسيا، وما على تركيا سوى محاولة إنهاء هذا الاحتلال».
تبدو النظرة إلى كازاخستان من أنقرة مختلفة وتطرح أسئلة عن موقع تركيا ممّا يجري
من جهته، اعتبر إبراهيم قره غول، رئيس التحرير السابق لـ«يني شفق»، والمنظّر للقوّة التركية، أنه «عندما قرّرت إدارة كازاخستان دعوة روسيا للتدخّل مع أعضاء منظّمة الأمن الجماعي، خسرت الدولة وخسر المتظاهرون». وأشار إلى أن «وسط آسيا، الآن، هو المحور الرئيس لجميع الخُطط الاقتصادية والعسكرية في العالم، ومنطقة الصراع الرئيس بين الولايات المتحدة وروسيا والصين وأوروبا»، مضيفاً أن «إعادة بناء القوّة التركية في هذه المنطقة تعني تهديداً كبيراً لهذه القوى». ولذا، «يُنظر إلى منظّمة الدول التركية التي نشأت أخيراً، على أنّها تجسّد هذا التهديد». وتابع قره غول أن «الغرب وروسيا والصين يرون أن آسيا الوسطى يجب أن تبقى كما الشرق الأوسط: منطقة ثروات تتدفّق إلى الغرب والشرق، وهذا يعني استمرار الهيمنة والاستعمار لفترة طويلة»، ورأى أن «الطريق الوحيد للتخلّص من هذا المخطّط هو تشكيل قوّة حزام أوسط، من ساحل الأدرياتيك إلى سور الصين»، لافتاً إلى أن «هذا هو أساس التفكير التركي في إنشاء منظّمة الدول التركية، بما يشكّل محوراً تركيّاً في خريطة القوة العالمية». ومن هنا، رأى قره غول أن «أزمة كازاخستان ليست داخلية، بل هي استمرار لاستخدام المطالب البريئة لتفكيك الدول. وقد فعلوا ذلك في أوكرانيا وجورجبا، واستمرّوا في العالم العربي مع موجة الربيع العربي». وزاد أن «الدول الكبرى تشنّ، الآن، حرباً لا هوادة فيها لمنْع ولادة قوة عظمى جديدة هي تركيا».
وفي صحيفة «حرييات»، المؤيّدة أيضاً لـ«العدالة والتنمية»، كتبت نيلغون تيكفيدان غوموش أن نزارباييف اتّبع سياسة التوازُن بين روسيا والغرب، ووعد بالاستقرار والأمن للمواطنين، وحقّق ذلك إلى حدّ كبير. ومع أنّه استقال، عام 2019، عن عمر 81 عاماً، لكنه بقي رئيساً لمجلس الأمن القومي. وأضافت أن «الزعيم الذي كان محبوباً، تَحوّل إلى الهدف الرئيس لشعارات المحتجّين نتيجة الصفقات المشبوهة في قطاع النفط للأقلية الحاكمة وعائلة نزارباييف، وعدم المساواة في توزيع الدخل». وفي هذا الإطار، أشارت إلى أن «المتمرّدين ينظرون إلى رئيس كازاخستان، قاسم جوميرت توكاييف، على أنه مجرّد أمين على حقبة نور سلطان نزارباييف»، متابعة أن «توكاييف عمل، لتخفيف الاحتقان، على إقالة نزارباييف من رئاسة مجلس الأمن القومي، وتولّى رئاسته بدلاً منه ثمّ طلب المساعدة الروسية». ولفتت إلى أن «عاملاً آخر ساهم في الاحتجاجات، وهو صهر نور سلطان نزارباييف، تيمور قاليباييف، الذي يعمل في مجال النفط والغاز الطبيعي، وتُقّدر ثروته بثلاثة مليارات دولار، كما أنه متّهم بأنه كان وراء رفع أسعار الغاز الطبيعي على المواطنين، من دون أن يفهموا سبب وجود نقص في هذه المادة». في جميع الأحوال، يتّهم توكاييف المتظاهرين بأنهم «إرهابيون، ويتلقون الدعم من الخارج»، ولذا طلب مساعدة روسيا. ومن هنا، خلُصت الكاتبة إلى أنه أصبحت لروسيا قوات في أوكرانيا والقرم وقره باغ، والآن في كازاخستان حيث للشركات الأميركية، مثل «شيفرون»، والبريطانية مثل «إكسون موبيل»، دور ونفوذٌ مهمّان.
وفي صحيفة «ميللييات»، المؤيّدة كذلك لـ«العدالة والتنمية»، كتب غونيري جيفا أوغلو عن الاحتجاجات التي أطاحت بـ«أبي الأمّة» نزارباييف، وهزّت أركان سلطة توكاييف، قائلاً إن «كازاخستان الآن تَظهر على الشاشة التركية الكبيرة، بعد أوكرانيا وقره باغ». وذكّر بأن عضوية كازاخستان في «منظّمة الأمن الجماعي»، التي تهيمن عليها روسيا، لا تمنعها من الدخول في علاقات مع دول أخرى؛ ففي عام 2021، اشترت طائرات تركية من دون طيار، كما وقّعت اتفاقية تعاوُن عسكري لمدّة خمس سنوات مع الولايات المتحدة، ووقّعت اتفاقية عسكرية مع إيطاليا، العضو في «حلف شمال الأطلسي»، لكن جيفا أوغلو نبّه إلى أن «منظّمة الدول التركية، التي تأسّست بدور مركزي لتركيا، مهمّة»؛ فقد قال الرئيس الكازاخي، في آذار 2021، إن «هدفنا جعل العالم التركي واحداً، من أهمّ المجتمعات الاقتصادية والثقافية في القرن الواحد والعشرين»، فيما اعتبر سياسيون كازاخيون أن «التحالف الاقتصادي سيتحوّل بالتأكيد إلى تحالف سياسي وعسكري في المستقبل». وأشار الكاتب إلى أن «تركيا لها مكانة محورية في هذه المنظّمة، بعدما باتت لاعباً رئيساً في قره باغ»، مضيفاً أن «منظّمة الدول التركية تخطّط لتكون هيكلاً له استجابة سريعة للمشكلات». وإذ رأى أن «كازاخستان اليوم بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، تشعر بالاختناق من ضغوط روسيا حيث 20% من سكّانها من الروس، والصين التي تبلغ استثماراتها هناك 34 مليار دولار»، فقد اعتبر أنه «إذا نجحت منظّمة الأمن الجماعي في فرض الأمن، فستبقى الأسماء الموالية لروسيا في السلطة». ولكن إذا ساورت روسيا الشكوكُ في التقارب بين كازاخستان وكلّ من تركيا والولايات المتحدة و«حلف شمال الأطلسي»، فستتمّ إطاحة توكاييف، وتصعيد اسم جديد موالٍ بالكامل لروسيا.