شكلت القارة الأووربية على امتداد ستة قرون متواصلة مركز ثقل هو الأهم في استقرار العالم، وفي جنوحه أيضا نحو اللااستقرار إذا ما اضطربت أحوال القارة العجوز، والمؤكد أن أحوال هذي الأخيرة كثيراً ما فعلت ذلك، دون أن تكون حربان عالميتان اندلعتا من رحمها، هما الدلالة على ذلك الفعل فحسب، فالصدام يمكن أن يكون على أشده من دون أن يصل بالضرورة إلى حدود اندلاع النار، ومن المؤكد أن هذا الدور الذي لعبته، والذي يمكن توصيفها من خلاله بأنها كانت المنصة التي تعرض عليها أهم المسرحيات العالمية، بينما بقية الشعوب ينحصر دورها ما بين «كومبارس» أو متفرج، أو ملحق بما يجري على المنصة على أبعد تقدير، كان نتاجاً للدرجة التي وصلت إليها شعوب القارة التي أضحى حراكها المصدر الأساس لمجمل التحولات العلمية والثقافية والعسكرية ثم السياسية كنتاج لكل ما سبق، وهي إذ شهدت اندلاع حربين عالميين في النصف الأول من القرن العشرين، فإن ذلك كان أبلغ تعبير عن تلك التحولات التي شاب مسارها انعطافات لها علاقة بالكينونة الخاصة بكل أمة من أمم القارة، وهي التي راحت تفعل فعلها في تعميق التناقضات التي لم يكن ممكنا إيجاد حلول لها في مرات عدة.
من بين كل الدول الأووربية تفردت ألمانيا بثقل صارخ لعبت عوامل عدة في ترجيح كفته في مواجهة نظيراتها الأوربيات، ولربما يمكن تعداد العديد من العوامل التي لعبت دوراً بارزاً في إكسابها لتلك الميزة، لكن الأهم منها هو ذات جماعية تستشعر على الدوام أنها متفوقة على ما يحيط بها، وأن خرائط الجغرافيا التي تؤطرها حدود مرسومة لا تلبي طموحاتها، بل إنها تشكل على الدوام تقييداً للدور الذي يجب أن يتعدى تلك الحدود، ولربما كان ذلك كله يشكل، جنباً إلى جنب عوامل عدة أخرى، الأساس الذي قامت عليه الحربان العالميتان الأولى والثانية، والتي حمل الغرب أسباب اندلاعهما للألمان.
هزمت ألمانيا لمرتين متتاليتين في حربي 1914 – 1918 و1939 – 1945، والمؤكد هو أن الهزيمة الأولى كانت قد مثلت الشرارة التي أشعلت الثانية، حتى إذا حصلت هذي الأخيرة التي جاءت بنتائج أقسى من الأولى، كانت النتيجة انشطار الجغرافيا، أي الأرض، والتاريخ، أي البشر، الألمانيين إلى نصفين كان كل منهما يدين بولائه لأحد المعسكرين اللذين انشطر العالم بدوره إليهما بعيد أن وضعت الحرب أوزارها.
قضت ألمانيا المجزئة عقدي الخمسينيات والستينيات وهي تلملم جراحها، وجل برامجها التي اعتمدتها كان ينصب على ترميم الاقتصاد والنهوض من حالة الدمار التي خلفتها الحرب، وفي نهاية الستينيات شكل وصول المستشار فيلي برانت (1969 – 1974) إلى سدة السلطة في برلين منعطفاً مهماً في مسار البلاد، فبعد عام واحد من وصوله إلى هذي الأخيرة، زار ألمانيا الشرقية داعياً من خلالها لسياسة التعايش السلمي بين شعوب القارة الأووربية، التي كان جدار برلين يقسمها إلى معسكرين يعمل كل منهما على تكريس الاختلاف مع الآخر، وفيما بعدها سيطلق سياسته التي عرفت آنذاك بسياسة الـ«وست بوليتيك» التي قامت على وجوب تجاوز «العداء» القائم ما بين المعسكرين، ما عنى من الناحية العملية وجوب انفتاح ألمانيا على ما وراء الجدار بمعنييه الجغرافي والعقائدي، لكنها قامت أيضاً على معالجة «التناقض الإيديولوجي» القائم مع الشرق بـ«ترياق» المصالح الاقتصادية كوسيلة يمكن لها أن تمنع التناقضات من الوصول إلى درجة الصدام، وعلى الرغم من أن سياسات برانت لم تكن ممثلة للمزاج الألماني العام خير تمثيل، إلا أنها أثبتت رسوخها وتنامي روادها خصوصا أن العسكرة الألمانية كانت خطا أحمر يتلاقى عنده معسكرا الشرق والغرب، والشاهد هو أن تلك السياسة أضحت وسماً لا يفارق المستشارين الألمان الذين تعاقبوا على السلطة ما بعد رحيل برانت عنها عام 1974 في أعقاب الفضيحة التي طالت أحد مستشاريه بعد ثبوت تورطه بالتجسس لمصلحة برلين الشرقية، بل إن ألمانيا ظلت حتى بعد توحدها عام 1990 وفية للسياسة السابقة مع بروز محاولات لتطويرها، ومع الدخول في الألفية الثالثة كانت برلين تتبنى سياسة قوامها التركيز على النمو الاقتصادي، وتعزيز الوحدة الأووربية مع التشديد على إبقاء محور باريس – برلين الذي شكل، لمراحل طويلة، أساساً لاستقرار القارة الأووربية، بحالة نشطة، وفي خلفية ذلك كله كانت هناك إستراتيجية ألمانية تقول بوجوب الابتعاد عن التدخل العسكري في النزاعات المحيطة والبعيدة على حد سواء في إيحاء للعالم تريد من خلاله القول إنها تخلت عن نزعتها العسكرية التي تثير استفاقتها الكثير من المخاوف والكثير من القلق.
بشكل ما يمكن القول إن برلين منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا 24 شباط المنصرم، أخذت تنزع شيئاً فشيئاً نحو الخروج من «قيودها» السابقة، فراحت تتحرر من عقدة «العسكرة» عبر إنشاء صندوق يختص بتطوير الأسلحة بقيمة 100 مليار يورو، مع قرار برفد ميزانية الدفاع للعام المقبل بمبلغ يصل إلى نصف القيمة السابقة، ولربما كان من الممكن وضع السياسات السابقة تحت راية هواجس الأمن التي تعززها لحظة دولية تسمح بتحولات من هذا النوع، لكن القرار بتزويد أوكرانيا بصواريخ مضادة للدروع وللطائرات، فعل بالتأكيد يتعدى هواجس الأمن السابقة الذكر، ولربما جاء تعبيراً أولياً عن وجود قرار ألماني بمغادرة سياسة «وست بوليتيك» التي اعتمدتها برلين لمدة تزيد على العقود الخمسة.
ما يمكن أن تقود إليه المغادرة آنفة الذكر، هو مناخات جد خطيرة، ولربما كانت الولايات المتحدة أول من يدرك المخاطر التي تستحضرها، لكن القبول بها، ولو بغض البصر، هو تعبير عن حالة التعب التي أرهقت الإمبراطورية الأميركية التي باتت موقنة بدخولها عصر أفولها، وهي تريد التمديد بأي ثمن كان، ولو بإيقاظ «إعصار» قد يكون إيقاظه باهظ الثمن.