على ضوء الأحداث الراهنة والتطورات على الساحة الأوكرانية، تتجه مسارات الأحداث ونتائجها على كل المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية لمصلحة روسيا، ولم يعد بمقدور واشنطن كرأس حربة أساسية لكل السياسات الغربية المناوئة لموسكو، إيقاف مجرى هذه التطورات أو حرفها لمصلحتها، حتى لو نشرت «خردة» الباتريوت في كامل محيط روسيا الحيوي من الجهة الغربية، بعد أن نشرتها في سلوفاكيا مؤخراً، كهدف إستراتيجي تبتغيه واشنطن للحفاظ على حالة اللااستقرار قرب حدود الاتحاد الروسي.
الأهداف الروسية باتت قاب قوسين أو أدنى من التحقق بغض النظر عن الفترة الزمنية اللازمة، خاصة أن البنية التحتية العسكرية لنظام كييف المنفِّذ للسياسات الغربية الأميركية أصبحت في خبر كان، أي حتى لو سحبت موسكو عتادها وعديدها العسكري الآن من أوكرانيا وأعلنت إيقاف عمليتها الخاصة لحماية إقليم دونباس، لن تستطيع كييف تشكيل أي خطر مستقبلي على الأمن القومي الروسي لخمس سنوات لاحقة على أقل تقدير، خاصة أن التدمير الممنهج للمنظومة العسكرية الأوكرانية تم بطريقة دقيقة ومدروسة من العسكريين الروس، وتبعه انهيار اقتصادي ومالي وطاقي لم تقف حدوده عند نهاية الحدود الجغرافية لأوكرانيا، ونستطيع القول إن موسكو أحكمت قبضتها على كييف بالمعنى العام وضمن المفهوم الذي انطلقت منه روسيا في عمليتها العسكرية الخاصة.
الحملة الدعائية الغربية ضد روسيا سقطت سقوطاً مدوياً لعدة أسباب، وأولها أنها أصبحت مستهلكة ومكشوفة أمام العالم، ولعل لتعرية وفضح الأكاذيب التي سيقت إزاء الحرب الإرهابية الهمجية التي فرضت على سورية دوراً كبيراً في ازدياد نسبة الوعي السياسي لدى المتلقي في أنحاء العالم، وهناك سبب آخر هو فشل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بقيادة حرب نفسية ضد موسكو قائمة على استمالات عاطفية غير مقنعة وغير قادرة على حشد رأي عام عالمي مناصر له، وكل الطاقة التي صرفت أثناء التصفيق له في برلمان الاتحاد الأوروبي ذهبت بلا مردود.
إضافة إلى تلك الأسباب كانت الجهات الروسية الدبلوماسية والسياسية والإعلامية التي تعنى بالرد على الحملة الغربية حاضرة وموجودة، واستطاعت تكذيبها والرد عليها وإثارة قضايا حقيقية وتسليط الضوء عليها، ولعل أبرزها قضية المختبرات البيولوجية الأميركية على الأراضي الأوكرانية التي باتت تؤرق واشنطن بشكل جدي، خاصة مع دخول بكين بكامل قوتها لكشف لغز هذه المختبرات وأهدافها.
التظاهرات التي تنطلق بشكل خفيف الآن في أوروبا وأبرزها في باريس، ضد الوضع الاقتصادي، ليست بجديدة، ولكن الجديد فيها أنها أصبحت تطالب السياسيين الفرنسيين والأوروبيين بشكل عام بعدم الاختباء خلف الأزمة الأوكرانية، والعمل على إيجاد حلول موضوعية للانكماش الاقتصادي بدلاً من الذهاب بالمصالح الوطنية لخدمة أهداف الغير، خاصة أن التصريحات الصادرة عن الأوروبيين المعنيين باقتصاد أوروبا لا تشي بالخير، مع فقدان احتياطيات الغاز والطاقة لتجعل المواطن الأوروبي يعيش حالة من القلق وعدم الاستقرار المعيشي بعد عقود من الاستقرار.
العلاقات الغربية مع موسكو انهارت، وهي كما وصفتها الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا في طريقها إلى نقطة اللاعودة، ولابد من إعادة بنائها من الصفر، ولذلك فإن الأحداث الجارية ستقود إلى عقد جديد من العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي ككل، ومع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي بعد إجراء مفاوضات طبيعية وبناءة حول نظام أمني جديد في أوروبا والعالم، ما يعني بالتأكيد مراعاة المصالح الروسية وهذا ما كانت تطالب به روسيا قبل عمليتها العسكرية ولم ينصت أحد لها.