في الثاني من تشرين الأول عام 1990 تمّ بناء خمسين خيمة في ساحة «ثورة أكتوبر» تحت شعار «الطلاب الجائعون» في العاصمة الأوكرانية كييف، حيث طالب مدعي الإضراب عن الطعام باستقالة رئيس وزراء جمهورية أوكرانيا السوفييتية حينها فيتالي أندريوفيتش ماسول، وإجراء انتخابات جديدة متعددة الأحزاب، وتأميم أملاك الحزب الشيوعي الأوكراني، ورفض معاهدة الاتحاد، وعودة عناصر الجيش الموجودين في الخارج جميعهم إلى أوكرانيا.
لم يكن الاتحاد السوفييتي قد تفكك بعد، ولكنها كانت التجربة الأولى لما سمي لاحقاً بـ«الثورات الملونة»، حيث أظهرت التجربة أنه من أجل إنجاح أي مظاهرات شعبية في أوكرانيا لابد من نقل الناس إلى كييف من الأقاليم الغربية، أي من لفيف، فرانكوفسكي، تيرنوبل، حيث شكل طلاب معهد لفيف للطب، القسم الأكبر من المضربين عن الطعام، حسب الأستاذ في جامعة كييف للاقتصاد ألكسندر دودتشاك في كتاب قتل الديمقراطية الصادر في دمشق عن وزارة الثقافة 2017.
قام بتنظيم هذا العمل اتحاد طلبة أوكرانيا الذي تم تأسيسه على نمط «اتحاد الشباب الأوكراني» لصاحبته كاترينا تشوامتشينكو التي نشأت في الولايات المتحدة، وتشربت قيم اليمين المتطرف الأوكراني لتتزوج فيكتور يوشينكو الذي أصبح رئيساً لأوكرانيا فيما بعد! هل هذا صدفة!
منذ ذلك التاريخ أي 1990، بدأت الولايات المتحدة الأميركية عمليات مكثفة لاختراق أوكرانيا، ونقلها من بيئتها الطبيعية السلافية والثقافية والتاريخية، إلى بيئة أخرى بلا جذور أو انتماء، حيث مولت الخارجية الأميركية برامج بمليارات الدولارات تحت عنوان دمقرطة المجتمع، ووسائل الإعلام المستقلة، وتدريب وتعليم السياسيين الشباب على ما سموه «قيم الأطلسي».
زبيغنيو بريجنسكي أحد أهم المنظرين الأميركيين، ومستشار الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر لشؤون الأمن القومي بين عامي 1977- 1981، ذو الأصل البولوني كان أحد أكثر المعادين للاتحاد السوفييتي، ولاحقاً روسيا، قال ذات مرة: «إن روسيا قد تصبح إمبراطورية أو ديمقراطية، لكنها لن تحقق لا هذه ولا تلك في وقت واحد، فمن دون أوكرانيا لن تصبح روسيا إمبراطورية، ومع أوكرانيا فإن روسيا ستتحول أوتوماتيكياً إلى إمبراطورية»، وفي 15 تشرين الثاني 1996 قال بشكل أكثر وضوحاً في مقابلة مع معهد الأبحاث الإعلامية المفتوحة: «إذا كان الروس أغبياء إلى درجة أنهم يحاولون استعادة إمبراطوريتهم، فإنهم سيواجهون نزاعات وستبدو لهم الشيشان وأفغانستان بمثابة نزهة»!
كلام بريجنسكي يعكس رأي الطغمة المالية العولمية، التي كانت تخطط للسيطرة على العالم، وها هي وزير الخارجية الأميركية الأسبق هيلاري كلينتون تؤكد في كانون الأول 2012 في دبلن أن واشنطن تعارض العمليات التكاملية في الفضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي، ويبدو واضحاً اليوم أن بايدن يمثل هذه الطغمة ويعبر عن كراهيتها لروسيا والرئيس بوتين بتصريحاته الجنونية، والهيستيرية!
لم تأت الأوضاع التي وصلت إليها أوكرانيا هكذا، إنما جاءت بناء على عمل متواصل بدأ عام 1990 كما أشرت وركّز على أمرين اثنين:
– القضاء على القدرة العسكرية الضخمة في أوكرانيا، وعلى السكان الذين لا يتعاطفون مع الـ«ناتو»، وبدلاً من ذلك تأسيس مجموعات نازية جديدة تأتمر بأوامر الـ«ناتو».
– تربية الأجيال الصاعدة على الولاء للولايات المتحدة وحلفائها، من خلال تشجيع اليمين القومي الأوكراني ذي الجذور النازية منذ الحرب العالمية الثانية.
ويمكن أن نضيف إلى ذلك دور الأوليغارش الأوكران الذين يشبهون نظراءهم الروس، ذلك أن جميعهم يهود، وهل هذا صدفة أيضاً؟ وأنا من الذين لا يؤمنون بالصدفة، ذلك أن أحد أهم صانعي الرئيس الأوكراني الحالي فولوديمير زيلينسكي هو الملياردير اليهودي الأوكراني إيغور كولومويسكي الذي استفاد من انهيار الاتحاد السوفييتي ليسيطر على قطاعات الحديد والصلب والغاز وشركات الطيران، ويؤسس شركات إعلامية خاصة، وليتحول إلى أحد أقوى الشخصيات الأوكرانية حتى عام 2010، كما أنه أحد مؤسسي وممولي الجماعات النازية في أوكرانيا، التي منها «ازوف»، وهذا الملياردير اليهودي الأوكراني مقيم في كليفلاند بأوهايو الأميركية، وهل هذا صدفة أيضاً؟!
وفقاً للعديد من وسائل الإعلام الغربية، فإن زيلينسكي لم يكن بإمكانه أن يصبح رئيساً من دون دعم كولومويسكي وشبكته الإعلامية وتمويله الكبير، ويقال حسب موقع «بوليتيكو» الأميركي إن زيلينسكي قبل أن يصبح رئيساً سافر أربع عشرة مرة خلال عامين إلى جنيف وتل أبيب للقاء كولومويسكي، حيث يتنقل في المنفى بين هذه المدن بسبب اتهامه بعملية اختلاس لأحد أكبر بنوك أوكرانيا «برايفت بنك»، بمبلغ 55 مليار دولار، ما اضطر الحكومة الأوكرانية لتأميم البنك خوفاً من إفلاسه، ومع ذلك وصفته صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية بأنه: «قنبلة أوكرانيا السرية» ذو النفوذ والتأثير.
من الواضح أن كولومويسكي أراد دعم رئيس ألعوبة، كي يتمكن من إنقاذ نفسه من الملاحقة القانونية، وغسيل ماضيه الإجرامي من خلال انتحال صفة الوطنية عبر تمويل الجماعات النازية عن طريق غسيل الأموال التي يشاركه بها زيلينسكي نفسه، إذ تشير وثائق باندورا في 4 تشرين الأول 2021، أن الاثنين كانا يستفيدان من شركات أنشئت منذ العام 2012 خارج أوكرانيا، وأن زيلينسكي أطلق شركة الإنتاج الخاصة به في العام نفسه بعقد مع شركات كولومويسكي الإعلامية، التي تلقت تمويلاً بـ41 مليون دولار من «برايفت بنك»، الذي اختلست أمواله من قبل كولومويسكي، وانتقلت إلى الولايات المتحدة.
الآن هل عرفنا أن سلاسل الفساد تغسل أموالها في الولايات المتحدة، أو جنات ضريبية تديرها هي، وهل عرفنا السلسلة التي تبدأ بنهب البلاد، ثم الفرار للخارج، ثم تمويل سياسيين ألعوبة لتحقيق أهداف أميركية في النهاية، هل كل هذا صدفة؟!
إن التدمير الممنهج للمجتمعات هو جزء من عمليات الهيمنة عليها، بما في ذلك جذورها الثقافية، والتاريخية وهويتها ومعتقداتها وديانتها، وهو جزء أساسي وإستراتيجي لإخضاع الشعوب والأمم.
وإذا أضفنا لكل ذلك عمليات تدمير الجيوش الوطنية وقدراتها الدفاعية والعسكرية والتقنية، نفهم أكثر لماذا تم تدمير الجيش العراقي واليمني، وإبقاء الجيش اللبناني ضعيفاً بلا تسليح، ولماذا تم العمل منذ بداية الحرب على سورية على استهداف مؤسسة الجيش العربي السوري في كل مكان من قبل المجموعات الإرهابية المسلحة التي أعدها الناتو بأموال خليجية، هذا بعد مهم يمكن التقاطه في أوكرانيا وغيره من البلدان.
أما الحبل السري كما نرى لكل مخططات الـ«ناتو» فإنه يستند إلى الفاسدين كنموذج كولومويسكي في أوكرانيا وكذلك لصوص القروض في سورية مثلاً، أو المسؤولين الذين أثروا على حساب شعبهم، هنا يتحول هؤلاء الفاسدون لحبل سري من أجل تنفيذ مخططات الـ«ناتو»، وغيره في بلادهم، برهان غليون مثلاً اعتقد أنه يمكن أن يكون زيلينسكي سورية، بصناعة قطرية، هو أو غيره كثر ممن ارتضوا أن يكونوا إمعات أميركية يسارية أو يمينية لا فرق.
تجربة أوكرانيا ليست صدفة، وكذلك تجربة سورية، ومن يعتقد خلاف ذلك عليه التدقيق، وربط الأمور ببعضها بعضاً ليجيب عن سؤالي الأساسي: هل كل هذا مجرد صدفة!