تخبرنا الحرب في أوكرانيا بعناصر عديدة، الكثير منها افتراضي وقائم على التلاعب بالأرقام والصور، والقليل منها يرتبط بصلات هشة بالوقائع، كما يعرفها صناع القرار في المعسكرين المتحاربين، ويتم من ثم تشويه الحقائق لخدمة أغراض دعائية في زمن الثورة الرقمية ووسائط التواصل الاجتماعي.
أما الشيء الأساسي الذي تعمل الحرب الروسية في أوكرانيا على طرحه بكثير من الإلحاح على ساحة النقاش، فيتعلق بحالة الاحتضار التي يعيشها النظام العالمي، وبروز مؤشرات قوية على قرب ميلاد نظام عالمي جديد. وعلاوة على ذلك، فإن هذه الحرب تجري تفاصيلها في عصر الإسهال المعلوماتي الذي تكثر فيه الأنباء المتضاربة، وتعمل كل الأطراف وبخاصة في العالم الغربي، على صياغة سيل من السرديات المتعلقة بالأحداث في ساحات المعارك. والأمر لا يتعلق فقط، كما يقول الباحث غسافييه غيلهيم، بالمواجهة الكلاسيكية بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، ولكن أيضاً، وربما بدرجة أكبر، بحرب اقتصادية وعدائية وأخرى متعلقة بالطاقة، حيث يتجاوز الحديث عن الطاقات المتجددة مجرد النقاش المرتبط بحماية البيئة ليأخذ أبعاداً جيواستراتيجية، هدفها السعي إلى حرمان الدول المنتجة للبترول والغاز من استخدامهما كسلاح فعال في العلاقات الدولية. وفضلاً عن ذلك، فإن الحرب في أوكرانيا تُبرز بشكل لافت، عجز الغرب عن الهيمنة على العالم في ظل تزايد تأثير القوى الآسيوية بزعامة الصين والهند، واتساع هامش المناورة بالنسبة للقوى الإقليمية على المستوى الإسلامي، مثل تركيا وإيران، وعلى المستوى العربي بقيادة مصر والسعودية والإمارات.
ويبدو واضحاً لكل المراقبين أن الغرب بزعامة الولايات المتحدة، أخفق في فرض تصوراته بشأن مجريات وتداعيات الحرب في أوكرانيا على العديد من حلفائه التقليديين، فقد رفضت باكستان بقيادة حكومة عمران خان إدانة الاجتياح الروسي لأوكرانيا، وأصر خان على زيارة موسكو على الرغم من اندلاع الحرب، وبالتالي، فإنه بعد فشل واشنطن في إقناعه بتغيير موقفه، قامت بالضغط من أجل سحب الثقة من حكومته الإتلافية.
وعلى الرغم من كل ذلك، فإن كل المؤشرات تؤكد أن النفوذ الأمريكي في باكستان بدأ يتراجع بشكل واضح لصالح المحور الصيني الروسي. كما أن الغرب يعلم جيداً أنه على الرغم من إدانة أغلبية دول العالم للحرب الروسية في أوكرانيا، فإن أكثر من ثلث سكان العالم الموجودين في الصين والهند، يرفضون اعتماد المقاربة الغربية بشأن هذه الحرب.
هناك أيضاً على مستوى العالمين الإسلامي والعربي، صحوة تهدف إلى الدفاع عن المصالح الحيوية لدول هذين العالمين، بصرف النظر عن الاعتبارات المتعلقة بالعلاقات التاريخية للعديد منها مع الولايات المتحدة، حيث آثرت تركيا أن تقف على الحياد في الحرب الروسية الأوكرانية، وحافظت على علاقات متوازنة مع موسكو وكييف على الرغم من كونها عضواً في حلف «الناتو»، ومازالت تبذل جهوداً حثيثة لتقليص الفجوة بين العاصمتين.
والشيء نفسه نلفيه بالنسبة لتعامل الدول العربية مع الأزمة الأوكرانية؛ إذ حافظت السعودية والإمارات على حيادهما بشأن هذه الأزمة وفضلتا المحافظة على اتفاقية «أوبك بلاس»، كما أجرى مؤخراً ولي العهد السعودي والرئيس الروسي اتصالاً هاتفياً من أجل بحث العمل المشترك بشأن سوق الطاقة، وآفاق إيجاد حل سياسي للحرب في أوكرانيا. وحاولت مصر أن تتخذ منذ البداية موقفاً متوازناً بشأن الحرب في أوكرانيا، وقد كان لافتاً بالنسبة للمراقبين تصويتها ضد قرار تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان.
أما بالنسبة لآخر عنصر متعلق ببواكير النظام الدولي الجديد الذي تسهم الحرب في أوكرانيا في إزالة الغموض عنه، فيتصل بالانتشار الكبير للكذب، فالجميع منخرط في الترويج لروايات حول واقع لا يملكون بشأنه أخباراً موثوقة؛ الأمر الذي يُفسح المجال واسعاً للكذب وللتضليل وللدعاية، لتكون الحقيقة مرة أخرى هي الضحية الكبرى في مثل هذه الحروب، لاسيما لدى المعسكر الغربي الذي سبق أن تحدث بلسانه ونستون تشرشل عندما قال: «إن الحقيقة في الحروب تكون ثمينة جداً ويتوجب حمايتها بعدد كبير من الحراس الشخصيين من الكذب». وبالتالي، فإن البؤس الأكبر بالنسبة للإنسانية، كما أكد ذلك ألبير كامو، كان وسيظل مرتبطاً بالكذب.
الخليج الاماراتية