إن الواقعية السياسية، والمالية ومصلحة الدول العليا، والرغبة في السيطرة والاستيلاء والاستحواذ، وكذلك التنافس بين الشعوب بحثاً عن الثروات، هي عوامل محركة لإظهار العداء، ودخول الدول في معارك عسكرية ومالية طاحنة تجعل مسألة الحرب في حكم الضرورة. فاستخدام القوة شيء متأصل في الإنسان، وهذا ما تؤكده المشاهد المتكررة للصراعات والنزاعات عبر التاريخ، وما زاد الأمر ضراوة، تلك العلاقة المعقدة بين القوة والتكنولوجيا، سواء في بعديها المالي أو الاجتماعي.
فعلى سبيل المثال إذا ما نظرنا إلى العقوبات المتعلقة بالخدمات المصرفية الدولية نجد أن العالم متّجه نحو صراع المصالح، دون إدراك لأهمية العلاقات الكوسموبوليتيكية، وأن الإنسانية أمام عصر جديد ومنظومة جديدة مالية واقتصادية، وذلك بعد أن فرضت دول الغرب على روسيا أخطر أنواع العقوبات بالخدمات المصرفية الدولية، وتم قطع الاتصال بينها وبين نظام «سويفت» الذي يوجد مقره الرئيسي في ولاية فرجينيا الأمريكية، وهو نظام المدفوعات بين البنوك لغرفة المقاصة، أو CHIPS. ويقوم أعضاؤه البالغ عددهم 43 بتسوية مطالبات بقيمة 1.8 تريليون دولار يومياً باستخدام حساب ممول مسبقاً في بنك الاحتياطي الفيدرالي، ولديهم جميعاً مكاتب في الولايات المتحدة ويخضعون لقانونها، ما يسهل على السلطات الأمريكية تتبع التحويلات المالية، ومعاقبة أي جهة تنتهك إجراءات الحظر المفروضة على أي دولة.
وقد أدى عزل روسيا عن هذا النظام إلى عزلها مالياً، حيث لم يعد بإمكانها استقبال أو إرسال أي مبالغ مالية لأي مكان في العالم. كما تم منعها من استخدام بطاقات الائتمان مثل «فيزا كارد» و«ماستر كارد» اللتين تتبعان للنظام الأمريكي للمدفوعات. وقد سعت روسيا إلى الالتفاف على هذه العقوبات من خلال توطيد علاقاتها المالية مع الصين، والاعتماد على النظام المالي المصرفي الصيني المعروف باسم «CIPS»، والذي يقوم بتسوية المطالبات المالية الدولية بعملة «الرينمنبي أو عملة الشعب».
وكانت الصين قد سعت إلى إنشاء نظام مقاصة مصرفي خاص بها من أجل تعزيز الاستخدام الدولي لعملتها، وأصبح الأمر أكثر أهمية بعد أن أطلقت الصين مبادرة «الحزام والطريق» التي تتضمن استثمارات صينية بمئات المليارات من عملة الرينمنبي في دول كثيرة في العالم. ثم أطلقت الصين نظام المقاصة الخاص بها، ويقع مقره الرئيسي في المركز المالي في شنغهاي، ولديه رأس مال مسجل بقيمة 2.38 مليار يوان. ويعد بنك الشعب الصيني أكبر مسهم في هذا النظام، حيث تبلغ حصته 15.7%، بينما تمتلك الرابطة الوطنية للمستثمرين المؤسسيين في السوق المالية، وبورصة شنغهاي للذهب، وشركة China Banknote Printing and Minting Corporation، وChina Union Pay حصة 7.85%، وفقاً لمعلومات تسجيل الأعمال التي نشرها موقع Tianyancha.com. وتمتلك البنوك الأجنبية أيضاً أسهماً، بما في ذلك حصة قدرها 3.92% مملوكة لHSBC Holdings، و2.36% لبنك ستاندرد تشارترد، و1.18% لبنك شرق آسيا.
ويقوم نظام CIPS بتسوية ومقاصة المدفوعات للمعاملات التي تستخدم الرينمنبي، ويشرف البنك المركزي الصيني على النظام، ولكن تديره شركة CIPS المحدودة في شنغهاي. وقد زاد استخدامه بشكل مطرد، حيث بلغ متوسط قيمة المعاملات اليومية 388.8 مليار يوان اعتباراً من فبراير/شباط 2022، بزيادة قدرها 50% على العام الماضي، وفقاً لبيانات من الشركة المشغلة للنظام.
وتسعى روسيا إلى استخدام CIPS، كبديل عن نظام CHIPS الأمريكي، وقد كشف البرلماني الروسي أناتولي أكساكوف الذي يشغل منصب رئيس لجنة السوق المالية في مجلس الدوما الروسي، أن البنك المركزي الروسي وبنك الشعب الصيني يعملان على تحقيق ربط بين النظامين المصرفيين للبلدين، وخاصة التراسل المالي. وقال: «إن هذه الخطوة تهدف إلى توطيد نظام تراسل مصرفي بين البلدين على غرار منظومة المدفوعات المالية الأمريكية CHIPS».
والواقع أن توجه روسيا إلى استخدام نظام المقاصة الصيني في عمليات المقاصة عبر البنوك في العالم، سيؤدي إلى تقدم وزيادة حجم المدفوعات بالنظام المصرفي الصيني، نظراً لحجم روسيا وتشعب علاقاتها عبر العالم، ما قد يجعل من النظام الصيني مكافئاً لنظام المقاصة الغربي الأمريكي في المستقبل، وبديلاً مناسباً للدول التي قد تتعرض لعقوبات أمريكية من ذلك النوع.