وأنت تستمع إلى حديث الرئيس الأميركي جو بايدن ينعى 21 قتيلاً بينهم 19 طفلاً قضوا في حادث إطلاق النار داخل مدرسة ابتدائية في ولاية تكساس، تظن أنه من أهل الضحايا لا حول له ولا قوة وليس صاحب القرار الأهم في الولايات المتحدة؛ إذ إن شرّ البلية ما يضحك ينطبق على سؤاله: «علينا أن نسأل متى سننهض ونقف في وجه جماعات الضغط المدافعة عن حق حمل السلاح؟ متى سنقف باسم اللـه في وجه لوبي السلاح؟ متى سنفعل باسم اللـه ما نعلم جميعاً أنه يجب القيام به من داخلنا»؟ وأضاف بايدن: «لقد حان الوقت لتحويل هذا العمل إلى عمل من أجل كل والد، من أجل كل مواطن في هذا البلد، ينبغي علينا أن نوضح لكل مسؤول منتخب في هذا البلد أن الوقت حان للتحرك». وقالت نائبته كاميلا هاريس: «قلوبنا مازالت تتحطم بسبب عمليات إطلاق النار التي تشهدها المدارس الأميركية باستمرار»، مضيفة: «علينا أن نتحلى بالشجاعة للتحرك، في مناشدة للكونغرس لإصدار تشريع يفرض قيوداً على بيع الأسلحة النارية وحيازتها».
إذا كان الرئيس الأميركي ونائبته يستجمعون شجاعتهم وعناصر قوتهم لفعل شيء يمكن أن يوقف الحوادث المتكررة في الولايات المتحدة من قتل الأطفال، فالسؤال هو من هم الذين يتحكمون بالقرار الأميركي ومن هم الذين يمنعون استصدار قانون يحرّم على مثل هؤلاء القتلة حيازة السلاح؟ وفي كل مرة يقتل أطفال في مدرسة أميركية، يتبارى المسؤولون لإدانة العمل الإجرامي والضغط على أعضاء الكونغرس لتغيير القانون في الولايات المتحدة حيث لا يتمكن الأميركي من حيازة السلاح بهذه السهولة، ولكن المعضلة الحقيقية تكمن في أن النظام في الولايات المتحدة قد بُني على بيع الأسلحة للداخل الأميركي والخارج أيضاً، وبايدن نفسه والكونغرس وافقوا على إرسال 60 مليار دولار من الأسلحة الفتاكة لقتل الأوكرانيين في حربهم العبثية مع روسيا.
إن تغيير هذه القوانين يستدعي في العمق تغييراً بنيوياً في نظام الولايات المتحدة القائم أصلاً على شن الحروب وتطوير وتصدير السلاح واختلاق الأزمات مع دول العالم وبين دول العالم من أجل بيع الأسلحة.
يقوم الاقتصاد والنظام السياسي الأميركي على اللوبيات، ويتربع لوبي السلاح على قمة السلطة فهو القادر على إيصال الرؤساء وأعضاء الكونغرس إلى حيث يستخدمونهم لشن الحروب.
والأمران متلازمان في داخل الولايات المتحدة وخارجها؛ فكما أن لوبي السلاح داخل الولايات المتحدة يريد أن يبقي على حرية حيازة الأسلحة بغض النظر عن الضحايا الذين هم في الأغلبية من الأطفال وطلاب المدارس والجامعات، فإن لوبي السلاح الأهم أيضاً في مواقع اتخاذ القرار، وهو الذي يؤيد شن الحروب في بقع مختلفة من العالم لأن الرأسمال الأميركي يعتمد أساساً على تصدير الأسلحة ولا يمكن أن يبقى منتعشاً إذا ما عمّ السلام العالم وتوقفت الحاجة إلى استيراد الأسلحة. ولهذا فإن دور الولايات المتحدة الحقيقي هو زعزعة الاستقرار في مناطق مختلفة من العالم واختراع الأسباب لنشوب الحروب التي تضمن أن تشتري المنتجات من الأسلحة الأميركية مما يضمن استمرار تطوير الأسلحة واستمرار ثروة الطبقة السياسية الصناعية العسكرية في الثراء من جهة والسيطرة على مفاتيح القرار من جهة أخرى، وأكبر مستهلك للأسلحة الأميركية هي وزارة الدفاع «البنتاغون» التي تتجاوز ميزانية مشترياتها من الأسلحة الميزانيات الدفاعية للعالم كله.
في اليوم ذاته الذي قتل مطلق النار الأميركي أكثر من 19 طفلاً أميركياً قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي الطفل الفلسطيني غيث رفيق يامين (16 عاماً) بعد أن أطلقت عليه قوات الاحتلال الإسرائيلي الرصاص الحي في رأسه في المنطقة الشرقية لمدينة نابلس، وقبلها قتلت الصحفية شيرين أبو عاقلة، وتقتل يومياً على حواجز الموت الإسرائيلية المدنيين الأبرياء، وكما أن غياب القرار الأميركي على أعلى المستويات والافتقاد إلى الجرأة والحرص الفعلي على حياة الإنسان هي العوامل التي تؤدي إلى استمرار ارتكاب المجازر في المدارس الأميركية فإن القرار الأميركي بالاستهانة بحياة الفلسطينيين وتعطيل كل قرارات مجلس الأمن المنصفة لهم، هي من العوامل أيضاً الأساسية التي تمكّن الإسرائيليين من الاستمرار في استباحة بيوت وساحات ومساجد وكنائس الفلسطينيين وقتل أطفالهم ونسائهم ورجالهم بإطلاق الرصاص الحي عليهم في الرأس من دون خجل أو وجل.
لا شك أن لوبي السلاح في الولايات المتحدة هو المسؤول الفعلي عن الحرب على العراق وتدميره لمئة عام قادمة، وهو المسؤول الحقيقي عن الحرب الإرهابية في سورية وعن احتلال المناطق الشرقية منها، وعن قصف ليبيا، وعن استمرار الحرب في اليمن، وعن الحرب في أوكرانيا، وطبعاً عن حروب أخرى كثيرة كحروب فيتنام وكوريا ويوغوسلافيا وأكثر من مئتي حرب أخرى، لأن هذا اللوبي لا يستطيع أن يستمرّ إلا إذا كانت الحروب مستمرة في العالم، وهنا يكمن الخطر الأساسي للنظام الأميركي، والأخطر هو الانجرار وراء قراراته وعدم امتلاك الشجاعة للوقوف في وجه قرارات الحروب والانسحاب من هذا المشهد الذي يعبث بحياة البشر تحت مسوغات ما أنزل اللـه بها من سلطان، فماذا فعل الشعب العراقي حتى يتم اختراع كذبة لقصفه واحتلاله وتدمير حياة وقتل الملايين منه؟ وماذا فعلوا بعد أن اكتشفوا أنها مجرد ذريعة مفضوحة لشن الحرب؟
وماذا فعل الشعب اليمني حتى تصبح أرض اليمن حقل تجارب للأسلحة الأميركية، والشعب اليمني ضحية مباشرة لهذا الاستهداف المجرم؟ وماذا فعل شعب أوكرانيا حتى تتحول أرضه إلى مرتع لما قيمته أكثر من 60 مليار دولار من الأسلحة، ومرتع أيضاً للنازيين الجدد والإرهابيين؟
إذا كانت نائبة الرئيس تدعوهم أن يتحلوا بالشجاعة للتحرك، فالأحرى بقادة الدول الأوروبية اليوم أن يتحلوا بالشجاعة لحماية مواطنيهم واقتصاد بلدانهم من عواقب إجراءات مدمرة ليسوا مضطرين لاتخاذها ولا مصلحة لهم بها سوى أنهم لا يتجرؤون على قول «لا» للولايات المتحدة، ولكن عليهم كما قالت هاريس أن يتحلوا بالشجاعة للتحرك ضد لوبيات السلاح التي تعيث حروباً وخراباً على هذا الكوكب وتمنع إحقاق الحقوق لأصحابها وتقف في وجه العدالة والقانون الدولي ليس لأي سبب سامٍ أبداً، بل كي تزيد الصناعة العسكرية الأميركية من ثرواتها وتطوّر مزيداً من الأسلحة الفتاكة وكي يضيف أصحاب البلايين بلايين أخرى إلى ثرواتهم ليزدادوا استهتاراً بحياة الأطفال والبشر سواء أكانوا داخل الولايات المتحدة أم خارجها.
لأن الموقف الإنساني من الحياة لا يتجزأ فإن من يستهين بقتل أطفال تكساس وأطفال نابلس وجنين، لن تحرك مشاعره الجرائم التي ترتكبها قواته في سورية أو العراق أو اليمن أو أوكرانيا أو ليبيا، ولذلك فإن الوقوف في وجه لوبي السلاح الأميركي والحروب التي يخترع لها الأسباب الساسة الأميركيون هو موقف ضروري وواجب على كلّ القادة في العالم وأولهم القادة الأوروبيون الذين يساهمون في تدمير بلدانهم وتدمير العلاقات الدولية ووضع العالم على فوهة بركان، فقط لأنهم لا يمتلكون الجرأة للوقوف في وجه الطغيان ولا يتحلون بما يجب أن يتحلى به القادة الشجعان الذين لا يهادنون مع الباطل والظلم ولا يذعنون لإرادة الغير.
إن الوقوف في وجه لوبي السلاح الأميركي أصبح ضرورة إنسانية لإعادة إرساء أسس السلام والتعاون الدوليين، وهذا واجب أخلاقي وإنساني على كل دول العالم، صغيرة أو كبيرة، وإن الحرب الدائرة في أوكرانيا تشكّل فرصة لدول العالم للتعبير عن رفضها لهذا النموذج من الحكم والهيمنة والعبث بمقدرات الشعوب وحياة أبنائهم.