كانَ من الطبيعي أن يرشَحَ عن المواقفِ المتقدمة للنظام التركي فيما يتعلق بالمصالحة مع سورية بوساطةٍ روسية الكثير من المواقف الجانبية المُكمِّلة لمواقفهِ، تحديداً بعدَ أن وصلَ الحال برأسِ النظام رجب طيب أردوغان للحديثِ صراحةً وللمرةِ الأولى عن رغبتهِ بلقاءِ الرئيس بشار الأسد، هذا التسريب لكلامٍ قاله أردوغان في اجتماعٍ حزبي وفي أهم الصحف التركية جاءَ بشقين، الأول هو تهيئة داخلية لكل خطوة سيُقدم عليها النظام التركي ونوع من المبادرة خارجياً، أما الثاني وهو حديث أردوغان عن «ارتكابات النظام في سورية» فهي تقديم مبرر للتراجعات التي يتبناها من منطلق القوة التي تجعلهُ يقول كل شيء في وجهِ خصومه، أردوغان يثق بأن قطيعه سينسى وعوده ويتذكر «الرجل الذي مدَّ يده للسلم»، هو قال هذا الكلام عندما زار المملكة العربية السعودية صاغراً مدَّعياً أنه جاء ليبحث كل الملفات بما فيها ملف الأماكن المقدسة ودماء جمال خاشقجي، ثم خرج ليتغنى بالعلاقات «الأخوية» بين البلدين، هذهِ المواقف المُكمِّلة لمواقف النظام التركي لم تخرُج عملياً عن الدائرةِ المُغلقة لتنظيمِ الإخوان المسلمين بمستويين اثنين:
المستوى الأول على صعيدِ الدول، هنا يبرُز دور الداعم الأكبر لتنظيمِ الإخوان المسلمين وهي مشيخة قطر، حيث شكَّلت هذه المشيخة بنك التمويل الأول في العالم لتقديمِ كل أشكال الدعم المادي وتمويل العمليات المرتبطة بالأجنحة العسكرية لهذا التنظيم في دولٍ كثيرة كسورية ومصر راح ضحيتها آلاف الأبرياء، ورعاية حتى إعلاميين وصحفيين يدعون صراحةً لتدميرِ بلدانهم واستعادة نهج الخلافة الإسلامية، التبرؤ القطري من تنظيم الإخوان والذي جاءَ عبر الأمير تميم وإن حمَل في طيَّاتهِ الكثير من الأكاذيب، لكنهُ في النهاية يبدو دفعةَ حسابٍ نحو المزيد من التراجعات تحديداً أن التنظيمات الإرهابية على شاكلةِ هذا التنظيم المجرم تنتهي قدراته العملية بانتهاء التمويل، هناك من يرى في الكلام القطري مراوغة فاشلة إذ ما الذي يعنيهِ عدم دعم الإخوان المسلمين بينما المشيخة غارقة حتى أذنيها بالتواصل مع «جبهة النصرة» والكثير من التنظيمات الإرهابية في سورية والتي تشكل لهم واجهةَ المعارضة السورية التي عليها الجلوس مع النظام للتفكير بمستقبل سورية؟!
هذهِ المقاربة تبدو صادقة شكلاً، إذ لا فرقَ عملياً بين ادعاء عدم تورطك بجريمةِ الاغتصاب لكنك أنت من جهَّزت السكاكين للقاتل الذي حاول التخلص من ضحيته، الجريمة هي الجريمة والتورط هو التورط سواء أكان مع التنظيم الإرهابي أم غيره ممن يساويهِ في الإرهاب، لكن المقاربة لا تبدو بذات الصدق مضموناً لأن هناك من يتجاهَل حقيقة قائمة بأن تنظيم الإخوان المسلمين الإرهابي هو الرحم القذرة التي أنجبت كل هذهِ التنظيمات منذ سقوط خلافة الإجرام العثمانية وإطلاق مؤسس الحركة المقبور حسن البنا لعبارة: «الإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف»، حتى يومنا هذا بمعزل عن قيام بعض الدول التي تنتهج النظام الإسلامي بترجمةِ كتبه إلا أن هكذا خطوة لم ولن تضفي شرعية على هذا الفكر القذر بما فيها اقتناع هذه الدول «الصديقة» بضرورة دمج الإخوان المسلمين في الحياة السياسية لمستقبل سورية، على هذا الأساس لا يجب النظر لتبرؤِ تميم من التنظيم الإرهابي على أنها دعوة عادية، هي فعلياً نقطة تحول في تاريخ المشيخة إن صدقت بتنفيذها!
المستوى الثاني، على صعيدِ «التنظيمات المقاومة»: فعلياً، وليكن هذا الكلام رأياً شخصياً، علينا وضع كل التوصيفات المتعلقة بالفعل المقاوم التي باتت مثارَ جدل تحت الضوء، هل حقاً هناك شيء اسمه «محور مقاومة»؟ هناك دولة مقاومة اسمها سورية وتنظيمات أو حركات مقاومة عابرة للحدود كـ«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» و«الجهاد الإسلامي»، لا يمكن لكَ أن تكون دولة مقاومة وفي نهجكَ السياسي دعم لتنظيمات إرهابية على شاكلة الإخوان المجرمين، هل حقاً هناك تنظيمات مقاومة؟ نعم، لكن لا يمكن لكَ أن تحمل لقب «مقاوم» وأنت تتواطأ وتتآمر مع المتآمرين على دولةِ المقاومة هذهِ، المقاربة تبدو ضرورية لتوصيف الوضع الذي تبدو عليه حركة حماس فيما يتعلق بملف عودة العلاقة مع سورية فكيف ذلك؟
دعونا نتفق أولاً بأن هذا الملف أخذَ أكبرَ من حجمه بكثير، من حماس اليوم وماذا تمثل بالمقاربة لجهة التائبين والعائدين إلى دمشق؟ حماس استمدت يوماً سطوتها الأخلاقية عندما احتضنتها عاصمة المقاومة دمشق، وبعد غدرها بالسوريين باتت كرتاً يتقاذفهُ من يريد تسجيل النقاط لا أكثر، بذات السياق وهو الأهم وقلنا هذا الكلام مراراً، لا تقرؤوا بيانات حماس التي عادت للتغني بالدولة التي دعمتها واحتوت قياداتها قبلَ أن تتلقفهم فنادق قطر للمقاومة والصمود، بل اقرؤوا في الصمت السوري ففيه لغة أكثر بلاغة تحديداً عندما يكون الحديث عن دولة مقابل تنظيم، هنا قد يسأل البعض وهل هذا الكلام معناه بأن الدولة السورية رفضت انعطافةَ حماس؟
من الواضح بأن الدولة السورية ليست بوارد الرفض أو القبول، حماس ليست دولة ليتم تبادل سفراء معها، هي مجرد تنظيم يجب النظر إليها من هذا الباب لا أكثر، إن قرر أحدهم في هذا التنظيم زيارة سورية فأبواب سورية مفتوحة لكل من يقدم نفسه كمقاوم وليسَ من يتاجر بملف المقاومة، أما المستويات التي سيتم التعاطي معها فلتكن أسوة بالشقيقة مصر التي تتعاطى مع التنظيم على مستوى الأجهزة الأمنية لا أكثر، من هذا المنطلق ربما على حماس الكف عن إصدار البيانات حول «قرارها» بعودة العلاقة مع سورية، لكثرةِ ما يوجد متحدثون باسم حماس فقد تكرَّرَ هذا البيان لمراتٍ ثلاث في الأسابيع الماضية والنتيجة ماذا؟
النتيجة أن الجانب السوري لا يرى هذهِ الانعطافة السياسية إلا انطلاقاً من انعطافات الرأس الأكبر لا أكثر ولا أقل، وبمعنى آخر هناك تقاطع انعطافات ولَّدَ لدى حماس هذه الرغبة ولو بقي التركي والقطري على مواقفهما لرأينا علم الانتداب يحلق من جديد فوق رأس المدعو خالد مشعل دعماً لـ«الثوار» في سورية، ومن ثم ادعائِه بعدم علمه بما يمثلهُ هذا العلم! يا له من رئيس مكتب سياسي محنَّك! كانَ من المفترض أن يكون هذا الموقف الحمساوي إن صحَّت مصداقيته الأخلاقية نتيجة لمراجعة داخلية وليست رقصاً على أنغام كبيرهم الذي علمهم الكفر!
من هنا لا يبدو بأن الحديث عما يجري من سعي روسي لإنهاء ملف المصالحة السورية التركية والمواقف الناتجة عنه قابل للتجزئة، فما حدود نجاحها تحديداً بعد الحديث عن لقاءٍ جمع في دمشق رئيس مكاتب الأمن الوطني اللواء علي مملوك ومسؤول المخابرات التركية حقان فيدان؟
من الواضحِ أن القيادة السورية تسير في قبول المصالحة مع النظام التركي بالكثير من الحذر عبرَ ردود الفعل المتصاعدة، هذا الحذر مشروط بحدوث تقدم ملموس على الأرض باعتبار أن النظام التركي لا يؤمَن جانبه فيما يتعلق بتنفيذ الوعود، هذا التقدم هو الذي يحدد عملياً تطور هذه العلاقة أو تطور مستوى اللقاء القادم فبعدَ أن كانت المباحثات عبارة عن تبادل معلومات أمنية بين جهازي الأمن السوري والتركي، هناك من يتحدث اليوم عن لقاءٍ مباشر بين أهم شخصيتين أمنيتين بين البلدين، هل قدمت تركيا معلومات سهَّلت وصول سلاح الطيران السوري لقيادات التنظيمات الإرهابية في إدلب؟ من التالي الذي ستقدمه تركيا على مذبح الهروب من جحيم الشمال السوري؟ هذا معناه بأن على النظام التركي وقبل الحديث عن نوعية اللقاء القادم، تقديم المزيد من التراجعات، سورية بالمناسبة لا يعنيها إن بقي ما يسمى الائتلاف في تركيا أو غادرَ أراضيها هو ليسَ موقفاً يمكننا اعتباره دفعة مقدمة من النظام التركي، في سورية يدركون بأن تلكَ الإمعات عبارة عن ورقة محروقة ستنتهي عاجلاً أم آجلاً ودون ثمن، لكن كلمة الفصل هي في الشمال السوري وتحديداً دعم التنظيمات الإرهابية التي خلَّفها فكر المقبور حسن البنا، هل إن التركي جاهز لذلك؟
دعونا ننتظر، تحديداً بأن عدم الاستعجال السوري يوحي بهدوءٍ ناتج عن الكثير من المعلومات بأن هذه التراجعات التركية ومن خلفها القطرية وصولاً إلى الحمساوية، هي تراجعات أميركية ستصل حكماً إلى مكانٍ ما لكن حتى ذلك الحين ليعلم الصديق قبل العدو، لا مكان لعصابة الإخوان المسلمين في سورية تحديداً بعدَ أن باتت وباعتراف عربي ودولي تنظيماً إرهابياً، وهناك من يطلب منا إعادة الروح إليها.
يالكم.. من سذَّج!