بعد نضال استمرّ عقوداً نجح الشعب البنغالي (196 مليوناً) عام 2000 بانتزاع قرار اليونيسكو بتخصيص يوم للّغة الأم في 21 شباط من كل عام، إذ لم يكن تحصيل هذا القرار سهلاً في وجه عولمة جارفة عملت على مدى عقود قبل ذلك لإقناع سكان الأرض بأن لا حاجة إلى لغاتهم الأصلية لأن لغة العلم والحضارة والتقنية والإبداع هي تلك التي يتحدث بها هؤلاء الحضاريون والتقنيون والعلماء في نظرة استعلائية شرسة عملت العولمة على ترسيخها في أذهان الشعوب الأصلية من خلال إعلام مركزي مخطط له بدقة وإحكام من جهات رسمت الأهداف التي تبتغيها ثم طوّرت الوسائل المتعدّدة القادرة على إيصالها إلى هذه الأهداف.
قد تكون اللغة الأم هي أول الأهداف الكبرى التي استهدفتها العولمة الغربية سواء بالنسبة للمهاجرين إلى ديارهم والذين يتمّ إشعارهم بأن التكلّم بلغتهم الأم يجعلهم أقلّ مرتبة وكفاءة من هؤلاء الذين يركّزون على اللغة الفرنسية أو الإنكليزية أو الألمانية مثلاً، أو بالنسبة لإدخال المفاهيم إلى المدارس الخاصة والأجنبية والعمل على إهمال اللغة الأم: إذ «لا علاقة لها بالعصر» والتركيز فقط على اللغات الأجنبية لأنها «لغات الحداثة والإبداع». ولقد شهد جيلنا هذه النقلة الخطيرة في المفاهيم حتى في المؤسسات التربوية العربية والجامعات، فقد حدثني الدكتور المرحوم حسام الخطيب أستاذ الأدب العربي في جامعة دمشق كيف تمّ الإلغاء القسري لأقسام اللغة العربية في جامعات عربية عدّة في العقد الأخير من القرن العشرين بذريعة أنها لم تعد لغة العصر ولم تعد ضرورية للأجيال الحالية والقادمة.
وقد اطّلعت بأمّ عيني على ملايين المغتربين العرب حين كنت أشغل موقع وزيرة للمغتربين وقد أهملوا تماماً تعليم أولادهم اللغة العربية وفرحوا بإتقانهم اللغات الأجنبية في البلد الذي يقيمون فيه من دون أن يقلقوا على خلل جسيم في انتماء وثقافة وتكوين أطفالهم. وبالتوازي مع حملات تهميش اللغة الأم لبلداننا ازدادت البلدان الأوروبية مثلاً تمسّكاً بلغاتها بحيث أصبح إتقان اللغة شرطاً مسبقاً للحصول على الفيزا والعيش في البلد المعني. فقد زادت أحداث الحادي عشر من أيلول من حملة استهداف اللغة العربية بشكل خاص، حيث تمّ الترويج للرّبط بين العربية والإرهاب بحيث لم يعد يتجرّأ حتى من يتقن العربية على التحدّث بها في الأماكن العامة في الغرب.
واليوم وبعد عقود من استهداف اللغات الأم وخاصة اللغة العربية يطلّ علينا الباحثون الغربيون بأبحاثهم ودراساتهم والتي تؤكّد أنّ إتقان اللغة الأم شرط أساسي لتوازن الشخصية والثقة بالنفس وحتى لإتقان لغات أخرى وأنّ الأطفال المهاجرين في المدارس الفرنسية والإنكليزية على سبيل المثال يجب تقديم النصح لأهليهم بأن يتقنوا لغتهم الأم قبل التركيز على إتقانهم لغة البلد الذي يقيمون فيه، لأن إتقان اللغة الأم يمنحهم الثقة والتوازن والقدرة على التعامل مع لغات أخرى. والخطير في الأمر أن إهمال اللغة العربية لا يقتصر على أبناء المهاجرين فقط وإنما ينسحب على المدارس الخاصة وأحياناً العامة في البلدان العربية ذاتها، وهذا أمر لا ينطبق على أي بلد خارج الوطن العربي أبداً: الاستحياء من اللغة الأم والسّعي لتعلّم لغة أجنبية بديلاً عن اللغة الأم، فهذه هزيمة انتمائية كبرى ولها تداعياتها الخطيرة على الشعور بالمواطنة والانتماء والكرامة.
وقد ترافق استهداف اللغة الأم هذا بانتشار وسائل التواصل الاجتماعي بطرائق واختصارات وثقافة لا تمتّ إلى الثقافة الأصلية للشعوب بصلةٍ، وفي الوقت الذي تمّت فيه تسميتها وسائل تواصل هي في حقيقتها وسائل «تشويه» ووسائل انقطاع وقطيعة حتى بين أبناء الأسرة الواحدة؛ فكم رأينا منظر الأولاد يقبعون، كلٌّ في زاوية وأعينهم مسمّرة على الموبايل من دون أن يشعروا بضرورة التواصل مع الأخ الجالس قربهم. إضافة إلى أن هذه الوسائل شكّلت بديلاُ سيئاً جداً للقراءة في عالمنا العربي والتي تناسبت عكساً مع انتشار هذه الوسائل؛ فأبناء جيلي يتذكرون أن الناشر كان يطبع على الأقل 10000 نسخة من الكتاب وقد يعيد طباعته، وهذا ليس عدداً كبيراً لأمة كان عددها 300 مليون واليوم أكثر من 400 مليون. بعد الحرب على العراق أصبح عدد الطباعة لا يتجاوز 3000 نسخة للكتاب واليوم معظم دُور النشر لا تنشر أكثر من 1000 نسخة للكتاب لأمة تنحو باتجاه نصف مليار إنسان.
والخطورة الأكبر هي أن وسائل التواصل الاجتماعي هذه، كما سمّوها، موجّهة ومموّلة من قبل من يؤمن بضرورة سحق لغتنا وثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا، ولذلك فهي تبثّ السموم في أذهان أبناء الضّاد وتشعرهم بالدونية وضرورة الخروج من أرضهم وانتمائهم والبحث عن انتماء يشعرهم بالاعتزاز والفخر، ولذلك فإن الإحصاءات على مستوى الوطن العربي تُري أن جواب أي شاب من المحيط إلى الخليج عندما يُسأل: «ماذا تنوي أن تفعل» هو: «أريد أن أهاجر»؛ وفي السنوات الأخيرة أصبح هذا جواب الشابات أيضاً. وبهذا أصبحت أجيالنا عُرضة لمعلومات مشوّهة تدمّر ثقتهم بأنفسهم وثقافتهم وانتمائهم من دون أن يقابل كلّ هذا تركيز على التحصين في المناهج التربوية وتعزيز التعلّم باللغة الأم أولاً من دون استثناء تعلّم اللغات الأجنبية لاحقاً، لا أن تكون اللغة الأجنبية بديلاً عن اللغة الأم. وبما أن اللغة هي أداة التفكير والكتابة والبحث والإنتاج فقد انعكس ضعف اللغة العربية على ضعف في الإبداع والتجذّر والانتماء.
واليوم حيث يخوض العالم حروباً مختلفة الأوجه لصدّ هذه العولمة الماكرة وحيث كشفت الليبرالية الجديدة عن أنيابها بمحاولة تدمير المجتمعات والأُسَرْ والروابط المقدّسة بين البشر ومن خلال تشويه فطرة وطبيعة الإنسان وبثّ مفاهيم وأفكار تتناقض تناقضاً صارخاً مع الطبيعة البشرية السليمة ومع مصلحة المجتمعات والدول لابدّ من مراجعة جذرية لكلّ القرارات والأسس التي اتُّخذت ووُضعت في عصر اجتياح العولمة لأرضنا وجذورنا، وهدمها من جذورها واستبدالها بما يتناسب والمصلحة الوطنية والقومية والإنسانية في مسار نقوده نحن ونضع تفاصيله وأهدافه ورؤاه بكل ثقة واقتدار وبعيداً عن الارتهان لسرديات الآخر ومفاهيمه المغرضة. وقد نكون اليوم أحوج ما نكون إلى زلزال ثقافي ومعرفي ومفهوماتي يخلّصنا مرة واحدة وإلى الأبد من آثار العولمة المغرضة التي بثّت السّم في الدسم لأجيال متلاحقة من أبنائنا.
إنّ استجابة الشعب السوري المشرّفة لحاجات المنكوبين في أعقاب هذا الزلزال الكارثة وفي ضوء تقصير الغرب المشين عن التجاوب مع الحاجات الإنسانية للسوريين، إن هذه الاستجابة الشعبية تمثل قمة الانتماء والإيمان بالأرض والشعب والوطن بعيداً عن كلّ السموم التي بثّها الغرب والتي بقيت محدودة على فئة قليلة من المهزوزين. إن هبّة الشعب السوري ما كانت لتحصل لولا تجذّره في أرضه وثقافته ولغته وانتمائه، ولهذا علينا أن نبني على ما تبقّى من أسس سليمة عزيزة وأن نصحح مسار ما أصابه الخلل منها لغة ومناهج وانتماء لأن الثقافات لا تتجذّر ولا تُمحى بين عشية وضحاها بل تستغرق أجيالاً عديدة حتى تصبح كالجبال راسخة في العقول والضمائر؛ فهل يتمكن العرب اليوم في مختلف أقطارهم من إعادة الاعتبار للغتهم الأم، لأن اللغة الأم هي الشرط الأساس للحفاظ على الأرض الأم؟ أو لا نرى اليوم كيف يحاول العدوّ الصهيوني شنّ حرب على اللغة العربية والمناهج التي تدرّس الحقوق والكرامة والعزّة؟ فكيف يتخلّى البعض عن كلّ هذا الإرث طوعاً مع أن مخاطر هذا التخلّي لا تُحصى ولا تظهر إلا بعد فوات الأوان حين يستحيل اجتراح حلول لها؟!
رغم هول الكارثة فقد وجد السوريون قوّة في الأشياء الصغيرة فقدّم كلّ مواطن ما هو قادر عليه بحيث شكّلت هذه الأشياء الصغيرة في النتيجة بحراً من العطاء خفّف إلى حدّ كبير من آثار كارثة مهولة. هذه هي النتائج الملموسة والمبهرة للتمسك باللغة الأم والأرض الأم والانتماء العزيز الذي يتجلّى بصورة ناصعة في أصعب الظروف.
هل نزلزل مفاهيمهم وأهدافهم بعد هذا الزلزال وندمّر كلّ ما يستهدفنا من قبلهم كما يتمّ تدمير الأبنية المتصدّعة لإنشاء أبنية جديدة مكانها؟ لقد برهنت مخطّطاتهم المعادية للغتنا وأرضنا وشعوبنا عن أنها متصدّعة وخطيرة ولا علاج لها سوى بإزالتها وإعادة بناء أبنيتنا وفق مخططاتنا ورؤانا ومصلحة أجيالنا.