د.أسامة نورالدين:
يبدو أن الولايات المتحدة لم يعد يكفيها النيران المشتعلة في العديد من مناطق الصراع المنتشرة في العالم، فقررت الانسحاب من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى، لتشعل بذلك سباقا نوويا جديدا مع روسيا بعد سنوات من التزام الطرفين بتلك المعاهدة، وهو ما يثير العديد من الأسئلة وعلامات الاستفهام، إذ لا يعرف ما إذا كان الرئيس ترامب يحاول أن يثبت للرأي العام الأميركي أنه ليس لروسيا دور ـ مثلما يزعم البعض ـ في الانتخابات الرئاسية، بدليل تصاعد العداء معها في العديد من الملفات والقضايا، أم أن المؤسسات الأميركية تحاول استنساخ تجربة الحرب الباردة لاستعادة مكانتها ونفوذها في العالم من جديد؟
لا أحد يمكنه تفسير حقيقة المواقف والقرارات الأميركية الراهنة بشكل دقيق، إذ تفعل الإدارة الأميركية الشيء وعكسه في نفس الوقت، وهي بذلك تقوم بإيصال رسائل متضاربة ومتداخلة بشكل يجعل من الصعب علي المتابعين تحليلها، فمواقف الرئيس الأميركي ترامب مع نظيره الروسي بوتين خلال الفترة الماضية كانت جيدة وأشاد الرجلان ببعضهما بعضا، وفي نفس الوقت نلحظ مثل هذه المواقف المحيرة والتي من شأنها أن تعيدنا لأجواء الحرب الباردة والصراع بين القطبين من جديد.
فهل تحاول المؤسسات الأميركية ومراكز صنع القرار صناعة عدو جديد من أجل أن تستحث الهمم وتشحذ العقول الأميركية للانطلاق من جديد، وذلك على أساس أن فترة الحرب الباردة كانت من أهم الفترات في التاريخ الأميركي الحديث، خصوصا وأن انتقال العداء من الاتحاد السوفيتي السابق إلى الإسلام والمنطقة العربية لم يضف للمشروع الأميركي أي جديد، بالعكس تم استنزاف الولايات المتحدة في معارك كلفتها الكثير، ومن ذلك أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي كسرت الهيبة الأميركية وما زالت تكلفها الكثير والكثير بسبب انحيازها للعدو الصهيوني واستمرارها في سياسة الكيل بمكيالين في تسوية الصراع العربي الإسرائيلي.
ولشعورها بالخطورة تحاول المؤسسات الأميركية نقل المعركة بعيدا عن المنطقة، ما يجعلها تدخل في صراع غير مباشر مع روسيا، خصوصا وأن الواضح أنها تتجه إلى مناطق النفوذ الروسية القديمة خصوصا في آسيا الوسطى، تلك السياسة التي بدأت مع الرئيس باراك أوباما الذي حاول كثيرا نقل النفوذ الأميركي إلى تلك المنطقة، بل وقد يكون السماح لروسيا بالانغماس في صراعات المنطقة جزءا من هذا المخطط الذي يستهدف إضعافها واستنزافها حتى يسهل على الولايات المتحدة تنفيذ رؤاها المستقبلية.
وفي هذا الإطار يمكن تفسير الخروج الأميركي من معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى، والذي يبدأ نفاذه في الثاني من فبراير الجاري، والذي ردت عليه روسيا هي الأخرى بتعليق المعاهدة التي تقضي بحظر الصواريخ التي تُطلق من البر بمدى يتراوح بين 500 و5500 كلم.
ولم تكتف روسيا بذلك، بل وكشفت أنها تعمل على صنع منظومة صواريخ موجهة سيتم تركيبها على المركبات المدرعة، وذلك حسب تصريحات لسيرجي أبراموف المدير الصناعي لقسم الأسلحة التقليدية والذخيرة والكيمياء الخصوصا في شركة “روستيخ” الروسية، ليس هذا فحسب، بل ووافق الرئيس بوتين على تطوير صاروخ أسرع من الصوت، لنصبح ـ على عكس كلام الرئيس بوتين الذي صرح حسب العديد من وكالات الأنباء بأنه لن ينجر إلى سباق تسلح ـ على أبواب حرب باردة جديدة.
ويبدو من هذا أن الولايات المتحدة تجر روسيا إلى سباق تسلح جديد، وروسيا بدورها تجر العالم الغربي الذي يجر بدوره بقية دول العالم، إذ في ظل هذا السباق المرير لن تقف الصين ولا الهند وباكستان موقف المتفرج، وهنا تكمن خطورة الخطوات غير المدروسة التي تنتهجها الإدارة الأميركية الحالية، والتي يبدو أنها باتت غير مدركة لخطورة تلك القرارات وتأثيرها السلبي على السلم والأمن الدوليين.
ويحدث هذا في وقت يعاني فيه المجتمع الدولي من صراعات مريرة من أقصاه إلى أدناه، وفي وقت تم فيه تهميش دور منظمة الأمم المتحدة التي بات دورها إدارة الصراعات وليس تجنبها أو حلها، تلك الصراعات التي راح ضحيتها الملايين من الأبرياء، والتي يتوقع في ظل التعنت الأميركي والروسي أن تزداد وتيرة تلك الصراعات وأن يروح ضحيتها ملايين أكثر وأكثر ما لم يتوقف هذا السباق وتعود تلك الأنظمة إلى رشدها وتعود الأمم المتحدة إلى سابق دورها.
كاتب وباحث علاقات دولية – الوطن العمانية












Discussion about this post