بعد مرور قرابة السنوات الثماني على حراكات الشعوب العربية، مخطئ من يتخيل أن الشعوب عادت إلى بيت الطاعة، وانكفأت في حظائر الخوف، وأنها استكانت حتى الموت، صحيح أن الظروف التي تعيشها شعوب المنطقة الآن، ربما تكون الأسوأ من تلك التي اندلع بسببها حراكهم، وصحيح تبخرت الأحلام أن تأتي ثورات ما سمي بـ”الربيع العربي” بأنظمة سياسية ديمقراطية، وأن تهل عليهم بازدهار اقتصادي وعدل اجتماعي، مثلما يفعل مصباح علاء الدين السحري.
رغم فواتير الخسائر المدمرة، والتي تعددت أرقامها 14 مليون لاجئ، 330 مليون عاطل، 1.4 مليون قتيل وجريح، 70 مليون عربي تحت خط الفقر، 900 مليار دولار دمار بنية تحتية، وما زالت الشعوب تحلم بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، وما زال التاريخ يسجل أن مجرد حدوث تلك الثورات يشكل حدثا تاريخيا فريدا في حد ذاته، لم يسبق له مثيل في تاريخ الدول العربية منذ الاستقلالات الوطنية.
لا يمكن لعاقل أن يمحو تلك الحقبة من تاريخ الشعوب دون استخلاص الأسباب، ولا يمكن لمنصف أن يهيل التراب على هذا الحراك، أو يكيل له الاتهامات دون بصيرة وتفحص، لقد تبخرت آمال الشعوب في حياة كريمة ومجتمع عادل، حتى بات بعض من شبابها يشعر بالغربة في وطنه، وأصاب انتماءه بعض من الوهن، وكثير من الإحباط، فذهب يبحث عن سبل ومخارج للهروب من هذا الواقع، ويتوق للهجرة حتى ولو كانت غير شرعية، هنا لا يمكن أن يخاط الجرح على صديد ملوث، أو يشفى على ورم عضال، الإهمال والتهميش يعني مضاعفات تؤدي إلى البتر.
لقد تحررت الشعوب المغلوبة على أمرها من عقدة الخوف، وبعد انهيار الكثير، لم يعد لديها ما تبكي عليه، ومع تزايد فشل أنظمة حاكمة في معضلة التنمية الاقتصادية لمجتمعاتها، وقطع دابر الفساد من هياكل إدارتها، ما زالت بعض الدول العربية شبه عاجزة عن تلبية مطالب مواطنيها من فئة الشباب خصوصا، وتركتهم يتهددهم الفقر والبطالة والتهميش. إذن لا نتعجب ومنذ أواخر 2018 اندلاع احتجاجات عارمة، في ثماني دول من السودان وتونس والمغرب وليبيا ولبنان، وصولا إلى العراق والأردن والجزائر، وإن تطور بعضها إلى مطالب سياسية، رغم معرفة الجموع بخسائر الانتفاضات الشعبية، ورغم يقين البعض بفواتير الدمار وانهيار الدول جراء رعونة الحشد وتدخل المرتزقة.
وكنوع من تفريغ الشحنات، وامتصاص الغضب أحيانا، قد تكون الاستجابة السريعة من قبل المسؤولين لمدونات مواقع التواصل الاجتماعي، سواء تعليقات ساخرة أو مواد فيلمية. صحيح أن الأجهزة الأمنية تدرك جيدا أن هذه المواقع قادرة على الحشد أمام الشاشات فقط، لكنها عاجزة عن حراك الشارع، إلا إذا طفح الكيل، فلا عجب الآن أن نجد مقطع فيديو يحرك الرأي العام، ويهز كل الأجهزة في الدولة المعنية، ذلك من فرط إصاباتها بالحساسية ضد الحشد الجماهيري، فقد تحركت الجماهير من قبل ضد أوضاعهم المتردية، عن طريق دعوات بثت على مواقع التواصل، ودفعت الآلاف من البشر النزول للشارع.
نعم لقد أصبحت الشعوب أكثر جرأة، وأكثر وعيا وعن تجربة أدركت أن ركوب الجماعات ذات الطابع الديني على الحراك الشعبي أتى بنتائج كارثية، حيث انجرفت إلى تكريس أشكال جديدة من الإقصاء وإثارة النعرات العرقية والإثنية والفئوية، وسعت إلى أدلجة المجتمع رغم افتقادها الحد الأدنى من الخبرة بإدارة الدول والتعامل مع المجتمعات.. أدركت الشعوب أن الثورة لا بد لها من قائد، وثورة عفوية أو تلقائية تعني بروز انتهازيي الفرص، والوصوليين وتجار الثورات، وتعني هيمنة أصحاب المصالح على المشهد، وتقاسم الكعكعة مع اللصوص والمرتزقة.
لقد أدركت الدول الكبرى أيضا أنها أساءت التقدير، وأن حساباتها كانت خاطئة عندما راهنت على ما سمي “إسلاما معتدلا”، يرفض العنف ويساير مصالحها، ولعبت أيضا دورا مباشرا في انفجار الثورات، طيلة عقود من الزمن، أنفقت خلالها مليارات من الدولارات على مراكز الأبحاث والمعاهد الدولية، لتكوين نخب من الخبراء والناشطين العرب الذين لعبوا أدوارا خطيرة في تهيئة الحراك الثوري العربي، وساهموا في تدمير وحرق وانهيار بلادهم.
الآن.. أصبحت الشعوب أكثر خبرة وأكثر دراية، وأن شعار (الشعب يريد إسقاط النظام) جملة ساذجة، فالأنظمة ليست أشخاصا تنهار بانهيار الحاكم، لكنه مجموعة من التحالفات المعقدة بين مختلف القوى، لها مصالحها وامتيازاتها لا يمكن أن تتخلى عنها بسهولة، ممكن تسقط لكنها سريعا ما يمكنها استعادة سيطرتها على أجهزة الحكم والإدارة.
نعم أصبحت الشعوب المحترمة أكثر حرصا على مصالحها وحقوقها، وأصبحت تشهر مطالبها في وجه الحاكم بلا خوف، لقد كانت الانتفاضات الشعبية تجربة في وجه الظلم، حتى وإن كانت مسيرة عن بُعد، كانت تدريبا على اقتناص العدل وعودة الحقوق، ورغم كم الدمار والخراب وقسوة التجربة، يظل شعار (عيش ..حرية ..عدالة اجتماعية) مطلبا جماهيريا على طول المدى، رغم الهزيمة والإحباط والشعور بالقهر.. من حق الشعوب أن تحلم بغد أفضل، وأن تعيش حياة آدمية، وفوق كل هذا حق الوطن أن يصان ويحمى، وأن يعلو ويرقى.. لقد تعلمت الشعوب أن الوطن إذا ضاع لن يعود، تعلمت أن حرية التعبير حق فرد، لكن صون الوطن فرض عين.. نعم أصبحت الشعوب أيضا أكثر جرأة في وجه من يدمر أوطانهم.
فوزي رمضان – صحفي مصري – الوطن العمانية
Discussion about this post