باتت الأسباب مفهومة التي دعت الولايات المتحدة إلى اتخاذ قرارها بسحب قواتها غير الشرعية من الأراضي السورية، بالنظر إلى الأكلاف الباهظة التي ستتحملها الخزينة الأميركية، بل سيتحملها دافع الضرائب الأميركي لتمويل بقاء هذه القوات خارج القانون الدولي وضد شرعة الأمم المتحدة في دولة أضحت مسلمات استعادة عافيتها واسترجاع كامل أراضيها الملوثة ببؤر الإرهاب والاحتلال تشير إلى دنو ذلك.
على الرغم من الإمكانات العسكرية الهائلة فإن الولايات المتحدة تدرك أن اليوم ليس مثل أمس، وغدًا ليس كما بعده، فالعالم يتغير، وتتغير معه هذه المنطقة الحيوية التي لطالما لعبت دورًا مهمًّا وكبيرًا في تثبيت الولايات المتحدة قوة عظمى وحدى في العالم، حيث صناعة النفط والتأثير على القرار السياسي بدا واضحًا ودليلًا على نجاحها في اتخاذ المنطقة قاعدة سياسية واقتصادية وعسكرية مكَّنتها من تعاظم نموها السياسي والاقتصادي والعسكري، وإزاحتها للاتحاد السوفيتي سابقًا لتهيمن على العالم لعقود.
صحيح أن الولايات المتحدة تحاول جاهدة مقاومة التغيير، والعمل ضد المسلمات بأن “التغيير من سنن الكون، ودوام الحال من المحال”، بيد أن المؤشرات تشير إلى أنها ستكون مجبرة بالتسليم بهذا التغيير، مع العمل على ترتيب الاحتفاظ بما تراه ركائز وثوابت؛ أولها بقاء كيان الاحتلال الإسرائيلي وتأمين بقائه، والاحتفاظ بحصتها من ثروات المنطقة؛ وإزاء ذلك تبذل جهودًا حثيثة لصياغة هذا الاحتفاظ عبر أطراف إقليمية تؤمِّن لها البقاء والدور المؤثر أخذت تضع فيها ثقتها، بالإضافة إلى التعويل على التنظيمات المسلحة والإرهابية لترتيب المشهد بما يحقق ذلك ويحفظ صورتها أمام العالم بأنها قوة عظمى.
اليوم وحسب ما يرشح من تطورات الأحداث في سوريا والعراق وأفغانستان وغيرها يشي بأن الولايات المتحدة ليس في مقدورها إدارة دفة الحروب والبقاء في هذه الدول وتحمل تكاليفها؛ لأنها تعلم أن بقاء قواتها في هذه الدول يحتاج إلى تمويل كبير، علاوة على أنه يمكن أن يتحول إلى ورقة ضغط بالنسبة إلى القوى المضادة للولايات المتحدة؛ فهذه القوات ـ على سبيل المثال ـ من الممكن أن تكون تحت قبضة الدولة السورية لكونها قوات احتلال، كما أن الانتشار في هذه الدول وليس في سوريا وحدها هو ورقة ضغط يمكن أن تستعمله قوى المواجهة مع أميركا ضدها.
وحين يقول الرئيس الأميركي دونالد ترامب لنظيره التركي رجب طيب أردوغان “سوريا كلها لك.. لقد انتهينا”، حسب المقتطفات التي بثتها محطة (سي أن أن) الأميركية للمحادثة الهاتفية التي دارت بينهما، إنما يأتي ذلك من منطلق التسليم بهذه التحديات التي لن تستنزف الولايات المتحدة فحسب، وإنما ستضعها في صورة هزيمة جديدة، وبالتالي لا بد من البحث عن وكيل يتولى المهمة نيابة عنها يمارس ما تريده واشنطن في سوريا، من تقسيم وتدمير واستعمار، وخلخلة في بنية الدولة السورية، بما يحرمها من مكانتها العربية والإقليمية، ويجعلها دولة مضعضعة مهلهلة أمام كيان الاحتلال الإسرائيلي. ويبدو أن المخطَّط له من وراء قرار الانسحاب ـ رغم المحاولات الواضحة لتأخير أو التحايل لبقاء القوات الأميركية غير الشرعية من خلال الدفع بتنظيم “داعش” الإرهابي في مقدمة المشهد، والإيعاز إليه بعملية محدودة تستهدف الوجود الأميركي لاتخاذها ذريعة للتراجع أو تأخير الانسحاب من سوريا، وهذا في عالم الاستخبارات يدخل في صميم عملها ـ هو جعل الدولة السورية تواجه طرفين معًا لاستعادة أراضيها؛ الأول تركيا، والثاني الانفصاليين الأكراد، الأمر الذي سيدخلها في حرب مفتوحة ـ وفق العقل المخطِّط الصهيو ـ أميركي ـ تستنزف فيها طاقاتها وثرواتها ومقدراتها ومعها حلفاؤها، ومن هنا يظهر الموقف الأميركي المطالب من أنقرة بأن لا تقاتل الانفصاليين الأكراد، وتتكفل بحمايتهم والتعاون معهم، لدرجة جعلت الرئيس ترامب يهدد بتدمير الاقتصاد التركي إن اعتدت أنقرة عليهم؛ لأن واضعي المخطط يعلمون يقينًا أن مواجهة أنقرة للانفصاليين الأكراد ستعني عودتهم إلى التفاهم مع الدولة السورية والتوحد معها والعمل تحت رايتها ضد الوجودين التركي والإرهابي في سوريا، وهو ما يعني سرعة الإنجاز السوري في الحرب على الإرهاب التكفيري الاستعماري، واستكمال نصرها المؤزر، ويعني كذلك الهزيمة النكراء لمعشر المتآمرين على سوريا وشعبها وجيشها وقيادتها.
وإزاء ذلك، تحاول الولايات المتحدة صياغة المشهد الميسِّر لها لانسحاب سلس ومحقق للأهداف بإتمام ما تريده من أنقرة والانفصاليين الأكراد، حيث أخذت تسترضي تركيا وتتودد لها بالموافقة على ما تسميه أنقرة “المنطقة الآمنة” في شمال سوريا، لتقبل بوجهة النظر الأميركية بالتعامل مع الانفصاليين الأكراد والتعاون معهم بما يمهد الأرضية لتحقيق ما تسعى إليه أنقرة من ضم أراضٍ سورية في الشمال، في خطوة شبيهة بلواء الأسكندرون، في المقابل عملت واشنطن على امتصاص الغضب الإسرائيلي المزعوم بالسماح لكيان الاحتلال الإسرائيلي باستهداف سوريا واستباحة سيادتها بزعم محاربة الوجود الإيراني.
نعم نجح الأميركي في تعويم التركي ومواقفه وإبعادها عن الدائرة الروسية ـ الإيرانية المتخذة من محادثات سوتشي وأستانة مرتكزًا لها، بدغدغة الأحلام القديمة التي تتملك القيادات التركية تجاه سوريا والعراق، وكذلك تعويم الإسرائيلي بإعطائه الضوء الأخضر في الاعتداء المتكرر على سوريا، ما ينتج عنه تكامل في الأدوار بين التركي والإسرائيلي. لكن في الأفق لا يبدو هناك ما سيبعث على تحقيق الأحلام حتى الآن.
خميس التوبي – الوطن العمانية
Discussion about this post