هذا ليس ضربًا في الودع أو قراءة فنجان طالع الأحداث، وإنما الوقائع بحقائقها الساطعة على الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والأمنية هي التي كانت ولا تزال تفاصيلها بمثابة مرآة عاكسة أمام جميع الشعوب العربية وأطيافها ومكوناتها ومثقفيها ومنظِّريها وسياسييها واقتصادييها وأمنييها، وهي التي لا تزال تواصل فرز الحقائق وفرز من ركبوا موجات تسونامي ما سمي بـ”الربيع العربي”، تحت دوافع كثيرة تفاوتت بين العمالة والخيانة، وبين التشفي والانتقام وتفريغ الأحقاد، وبين السمسرة للحصول على كرسي وثير في كعكة المحاصصة للحكومات الطائفية التي كانت هي الثمرة المرادة في حصاد الربيع.
لقد نجح معدو مخطط “الربيع العربي” في اختراق البنى الحيوية لعقول الشعوب العربية عبر قوى مؤثرة تكاملت فيما بينها، فكونت قوة ضاربة لتحطيم الوعي العربي وفرض ثقافة جديدة مستظلة بالإسلام المسيَّس، حيث لعبت وسائل إعلام مشبوهة، وأقلام مأفونة، ورجالات دين وسياسة مأجورة على هيئة مفتين ومحللين دورًا كبيرًا في إعطاء موجات تسونامي “الربيع العربي” قوة دفع عالية جدًّا، تمكنت من اكتساح البنية العقلية العربية الجمعية، إلا من كان إيمانها عاصمًا لها، متخذة من “كسرة الخبز والحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة والدولة المدنية” ريشة تعزف بها على وتر العاطفة والأحاسيس وأوجاع الناس، فكان عقل المواطنين البسطاء أول الضحايا.
وبمقارنة الصور بين حال الدول العربية التي أتت عليها موجات تسونامي “الربيع العربي” في العام 2011م وحالها اليوم ونحن نودع عامها السابع 2018م ونستعد لندلف إلى العام 2019م كفيلة بإعطاء كثير من الانكشافات والحقائق؛ أقلها أن السواد الأعظم من الذين كانوا مؤيدين لهذا النوع من الفوضى المدمرة تمكنوا من إعادة اكتشاف موقعهم اليوم، ومعرفة المستوى من السذاجة التي مكنت أعداءهم من ممارسة ألاعيبهم وخداعهم عليهم ليقودوهم إلى هلاك أوطانهم ودمارها.. ألم يندب التونسي حظه الذي افتخر وتفاخر بأنه صاحب “ثورة الياسمين”؟ فأين هو اليوم من ياسمينه؟ ألا يشم كل يوم روائح الجوع والفقر والصراعات والمماحكات السياسية، وكذلك محاولات بعض القوى الخارجية التدخل في شؤونه الداخلية؟ ألا يبحث صاحب “الياسمين” عن استقراره وعن لقمة عيشه، بعدما باع ما كان يوفر له لقمة العيش من أجل ثورة ياسمينه، اعتقادًا منه بأنها ستدر عليه ذهبًا؟ وأين الليبيون اليوم من ذلك الاستقرار السياسي والاقتصادي الذي كانوا ينعمون به؟ أليست الكلمة العليا اليوم لصراعاتهم السياسية والطائفية، فيما ثرواتهم ينهبها من خدعهم وأوقعهم في شرك تبديل نعمة بنعمة أخرى؟ ولماذا يتمنى العراقيون اليوم “نار” صدام ويرفضون “جنة” الأميركان؟ ولماذا يرفعون صوره في الجامعات والكليات العراقية؟ والحال في مصر لم يكن بأحسن من سابقه، فالمصريون لا يزالون يمنون النفس بأن تكون أوضاع بلادهم الاقتصادية وفق طموحهم، في حين يواصل الإرهاب البحث عن أوكار يتغلغل فيها ليدمي الشعب المصري، ويضرب استقرار مصر. والوضع في السودان واليمن ليس استثناء.
وفي الوقت الذي كانت مخالب قط العملاء والأدوات توغل في جسد الدولة القطرية وتقطع مفهومها لصالح القوى الاستعمارية الامبريالية وكيان الاحتلال الإسرائيلي الواقفة وراء تسونامي “الربيع العربي”، كانت سوريا الأقدر ليس فقط على فهم أبعاد المخطط المدمر بتركيبته الإرهابية الظلامية والطائفية لتحطيم آخر قلاع النضال العربي من أجل الكرامة والكبرياء والشرف والعرض التي دنستها جحافل الأعداء، ومن أجل استرداد الحقوق المغتصبة وأولها فلسطين وقدسها، ومقاومة المحتل والغازي والمستعمر، وإنما أيضًا كانت حاضرة ومستعدة لمواجهة المخطط، بما تمتلكه من أدوات، فخاضت معركتين معًا، الأولى في العقل والمنطق والفهم، وهنا لعبت الحكمة وقوة المنطق والمقاربات السياسية، وتعطيل سلاح الإعلام رغم تفوقه ـ خصوصًا في بدايات موجات التسونامي ـ دورًا كبيرًا في عملية التبصير وإثارة الوعي وتنويره لدى شرائح المجتمع السوري، وكذلك المجتمعات العربية والإسلامية. والثانية معركة المواجهة للإرهاب التكفيري الظلامي، بداية بالدفاع والصد، وإفشال موجات الإرهاب الآتية من كل اتجاه، وإبطال مفاعيلها، ثم الانتقال إلى المواجهة الحقيقية التي ترجمتها في صورة انتصارات وهزائم ميدانية وسياسية معًا، بداية من مدينة القصير ثم القلمون وحمص وحلب وريف دمشق والغوطة، والجنوب السوري…إلخ.
وبعيدًا عن المبالغة، سوريا تلج العام الميلادي الجديد 2019م وهي تسير بخطوات الواثق، مستعيدة عافيتها وعنفوانها، لا تؤكد أنها قلب العروبة النابض، وإنما لتؤكد أنها القلب النابض بالعروبة والقومية والعقل الناطق بالحكمة والحنكة. فما حققته، وما لا يزال على جدول أعمالها لتتويج العام 2019م بالانتصار الساحق، والتقدم الناجز ـ بإذن الله ـ بالمقارنة مع العودة إلى المربع الأول لشقيقاتها في مخطط الاستهداف، وقد تراكمت على شعوبها المحن والإحن والفتن، والبؤس والفقر وعدم الاستقرار والبحث عن الأمن والاطمئنان ولقمة العيش، أعطى الصورة الحقيقية والواضحة عن أي طريق كان العرب سائرين، حين اختاروا أروقة مجلس جامعة الدول العربية للالتئام من أجل تجريد سوريا من عضويتها ومحاصرتها، وحين اختاروا ساحة مجلس الأمن الدولي لاستصدار قرارات تستهدف سوريا بالعمل العسكري المباشر وبالفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة على غرار ما فعلوه بليبيا. ومن يتابع حركة الإعمار في حلب وغيرها التي دمرها الإرهاب التكفيري سيجد سوريا كم هي ملهمة ونابضة بالحياة والفكر والإصرار والصمود والصبر وحب الحياة والتعايش.
المشكل أن الأسباب التي اتخذ منها معدو مخطط تدمير الدول العربية أخذت تعود بقوة، دون انتباه لها، وعدم العمل على منعها بتذليل المعوقات وحل مشاكل الشباب، والإتيان بالمعالجات السليمة للتحديات الاقتصادية والأزمات المالية، فالباحثون عن عمل في بلاد العرب باتوا قنابل موقوتة، وأنياب الفقر والجوع والمرض بدأت تنهش شعوبها، والفساد بدأ يستشري وبصورة أكبر، والمسؤولون فيها هم ذاتهم كعلائق تمتص وحدها إمكانات البلدان ومواردها.
وخلاصة القول: إن سوريا ـ التي فهمت بحكمة قيادتها ووعي شعبها ووفاء حلفائها، وبسالة جيشها ـ تبدأ عملية التحليق إلى الأمام، فيما الآخرون يعودون إلى مربعهم الأول ربما مع جولة أخرى من حروب الجيل الرابع والخامس، وربما مع تجربة للجيل السادس من يدري؟
خميس التوبي – الوطن العمانية
Discussion about this post