كانت «مفاوضات فيينا» لإحياء الاتفاق النووي الإيراني على وشك تحقيق أهدافها في آذار/مارس 2022 لكن «الغزو الروسي» لأوكرانيا في 24 شباط/فبراير 2022 فرض نفسه عاملاً مؤثراً على مسار العودة إلى الاتفاق، ما حدا بالاتحاد الأوروبي، الذي تولى المحادثات غير المباشرة بين أمريكا وإيران، إلى الإعلان عن توقف المفاوضات التي كانت تهدف إلى إعادة الولايات المتحدة للاتفاق عبر رفع العقوبات، وامتثال طهران مجدداً لكامل التزاماتها بموجب بنوده، فطارت محاولات إحياء «خطة العمل الشاملة المشتركة» التي تبنّاها القرار الدولي 2231.
بدا مع زيارة سلطان عُمان هيثم بن طارق إلى إيران في نهاية أيار/مايو الماضي ولقائه المرشد الإيراني علي خامنئي أن هناك شيئاً جدّياً يدور في طريقه إلى الإنجاز، وسارت التكهنات عن إمكان حدوث «خرق ما» على مستوى الملف النووي، بعدها ظهرت مؤشرات عدّة تمثلت بكشف الإعلام عن محادثات أمريكية – إيرانية غير مباشرة بواسطة دول خليجية من بينها سلطنة عُمان استؤنفت منذ نهاية 2022 تولاها عن الجانب الأمريكي مسؤول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي بريت ماكغورك، وحصول لقاءات مباشرة في نيويورك بين المبعوث الأمريكي لإيران روبرت مالي وسفير طهران لدى الأمم المتحدة أمير سعيد إيرواني.
ومن المؤشرات أيضاً، إعلان الوكالة الدولية للطاقة الذرية إعادة تركيب بعض معدات المراقبة التي كانت موجودة بموجب اتفاق 2015 وطلبت إيران إزالتها، فضلاً عن تحدث تقارير إعلامية عن قرار إغلاق الوكالة لملف موقع «آبادة» النووي بعد تلقيها «تفسيراً محتملاً» من إيران بشأن العثور فيه على جزيئات يورانيوم مخصبة بنسبة 83.7 في المئة. وهو من المواقع الثلاثة غير المُعلن عنها التي تطالب الوكالة الدولية طهران بأجوبة حول وجود آثار مواد نووية فيها، فيما تطالب طهران بإغلاق تلك الملفات الثلاثة بوصفها إيداعات من طرف ثالث كشرط لضمان استمرار الاتفاق.
إطار من الضمانات
وما زاد من منسوب التكهنات كلام المرشد الأعلى الإيراني، خلال زيارته معرض الإنجازات النووية في طهران، أن لا مشكلة في إبرام اتفاق نووي بشرط عدم المساس بالبنية التحتية للصناعة النووية الإيرانية، ومطالبته هيئة الطاقة الذرية الإيرانية بمواصلة العمل مع الوكالة الدولية في إطار من الضمانات، وخرج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ليقول إن بلاده لن تلتزم بأية تسوية يتمُّ التوصل إليها مع إيران وإن إسرائيل ستعمل ما يلزم لحماية نفسها، سواء أكان هناك اتفاق مع إيران أم لم يكن. وشملت الحركة الدبلوماسية لقاء المفاوض الإيراني علي باقري كني في أبوظبي بمسؤولين فرنسيين وألمان وبريطانيين.
لا يجري الحديث عن العودة إلى إحياء اتفاق 2015 أقله أمريكياً، بحيث إن واشنطن نفت التقارير عن احتمال التوصل إلى اتفاق مؤقت. فأمام إدارة بايدن عقبات إذا أرادت الذهاب إلى إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة، ولا سيما بعدما أصدر الكونغرس الأمريكي قانوناً بوجوب حصوله على نص أي اتفاق بشأن برنامج إيران النووي. المتوقع لدى المتابعين أن يكون العمل الفعليّ وراء الكواليس على اتفاق غير رسمي هو بمثابة «اتفاق جزئي» أو «تفاهم» يشتمل في حده الأدنى على إطلاق سراح إيران لثلاثة معتقلين أمريكيين من أصل إيراني مقابل رفع تجميد بعض الأرصدة الإيرانية في الخارج. وقد تمَّ إدراج سماح الولايات المتحدة بتحويل 2.7 مليار دولار من العراق إلى البنوك الإيرانية، في إطار خطوات بناء الثقة، في وقت يجري الحديث عن أن رفع تجميد الأرصدة سيطال تلك الموجودة في كوريا الجنوبية والتي تقدر بـ7 مليارات دولار. هذا الحد الأدنى يحتاج الرئيس الأمريكي إلى تحقيقه كإنجاز يمكن البناء عليه في حملته الانتخابية بعدما قرَّر خوض الانتخابات الرئاسية في العام 2024.
في نظر المراقبين أن أقصى ما يمكن أن يحققه بايدن هو تقييد برنامج طهران النووي. أما الإيفاء بما وعد به في حملته الانتخابية الأولى بالعودة إلى إحياء اتفاق 2015 فقد بات صعباً، لأن الظروف مختلفة عما كانت عليه في 2020. فاليوم هناك حرب روسيا في أوكرانيا وانخراط إيران في تلك الحرب عبر مسيَّراتها، كما أن الكونغرس – في غالبيته – غير مشجِّع للانفتاح على طهران ولاسيما في ظل تماديها في قمع الاحتجاجات الشعبية على خلفية مقتل الشابة الكردية مهسا أميني، كما أن لديه اعتراضات على اتفاق 2015 الذي يرى مراقبون أنه ما عاد صالحاً بعدما تجاوزت إيران تخصيب اليورانيوم بدرجة نقاء 60 في المئة، وسنوات تقيّد إيران شارفت على بداية النهاية.
الإيرانيون يظهرون تشدداً لاعتبارهم أن أساس مفاوضات رفع العقوبات هو خطة العمل الشاملة المشتركة، وأن ليس هناك إطار عمل جديد، ولا يؤيدون أي مفاوضات لاتفاق مؤقت أو ترتيبات جديدة. هو تشدّد في إطار التفاوض المفترض، حيث تبحث اليوم الدوائر الإيرانية عن أسباب استبعاد روبرت مالي كشخصية رئيسية في تلك المفاوضات، الأمر الذي ينظر إليه منظرو «محور إيران» بكثير من الحيرة، خصوصاً إذا كانت واشنطن جادة في تحقيق اختراقات حقيقية في ملف العلاقات الأمريكية – الإيرانية.
مستوى الاحتجاجات
حتى ولو غالت طهران في وصف وضعها الداخلي بالأفضل قياساً لما كانت عليه قبل أشهر على مستوى الاحتجاجات، فإن المتابعين على الضفة المناهضة لها لا يرون ذلك. فرغم أن الاحتجاجات أو ما جرى وصفه بـ«ثورة الحجاب» قد خفتت في كثير من المناطق والمحافظات، إلا أن التظاهرات ما زالت تخرج، ولو بشكل محدود، وما زالت زهدان تخرج بعد الصلاة الجمعة للأسبوع الـ44 وما زال المواطنون البلوش يهتفون بالموت لخامنئي ويطالبون بإطلاق سراح السجناء السياسيين.
ويرى مراقبون أن تراجع الاحتجاجات لا يعني نهايتها، فقد باتت إيران على الدوام أمام تحدي الشارع لها تحت عناوين عدة، وإن كانت «ثورة الحجاب» شكّلت الخطر الأكبر عليها كونها تناولت مسألة عقائدية يرتكز عليها النظام.
سيُراقب العالم نبض الشارع في ذكرى مقتل أميني في أيلول/سبتمبر المقبل. هذا في وقت ما زالت المعارضة الإيرانية تنشط في الخارج، بحيث شكَّل المؤتمر السنوي لمنظمة مجاهدي خلق الذي انعقد في أول تموز/يوليو في شمال باريس تظاهرة دولية تزامنت مع تظاهرات ضخمة في قلب باريس وُضعت فيها شاشات عملاقة نقلت المؤتمر والكلمات الرئيسية فيه، ولم تنفع محاولات إلغاء التظاهرات بذريعة وجود مخاطر وتهديدات.
في خضم مرحلة الضغوط والضغوط المضادة، يأتي القرار البريطاني بفرض عقوبات جديدة على 13 فرداً وكيانات إيرانية بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، والأهم إعلانها عزمها إنشاء نظام عقوبات جديد لإيران يخوّلها استهداف صنّاع القرار بمن فيهم المتورطون بانتشار الأسلحة وتهديد الرعايا البريطانيين. خرج وزير خارجية بريطانيا جيمس كليفرلي ليعلن عن 16 محاولة خطف وقتل لرعايا معارضين للنظام الإيراني حصلت على الأراضي البريطانية خلال الـ18 شهراً الماضية، محذراً من أن بلاده قد لا تكتفي بعقوبات على الحرس الثوري بل قد تذهب إلى إدراجه على لائحة المنظمات الإرهابية إذا تمادت إيران في أعمالها. ويترافق ذلك مع ضغوط أمريكية وفرنسية وألمانية وبريطانية على مساعد الأمين العام السياسي في المنظمة الدولية خلال تقديم إحاطته حول تنفيذ القرار 2231 لإجراء تحقيق حول انتهاكات إيران لبرنامجها الصاروخي وتزويدها روسيا بمسيّرات تُستخدم في أوكرانيا.
وليكتمل المشهد، جاءت الاحتكاكات البحرية، حيث أعلنت القوات الأمريكية عن إحباط محاولتين للبحرية الإيرانية لاحتجاز ناقلتَي نفط تجاريتَين في المياه الدولية قبالة سواحل عُمان، وإطلاق نار في إحدى هاتين المحاولتين، واحتجاز الحرس الثوري في عملية ثالثة سفينة تجارية يُعتقد أنها متورطة في أنشطة تهريب.
حوادث ومناوشات واحتكاكات وضغوط ستزداد في الأشهر المقبلة في لعبة «العضّ على الأصابع» وتحسين الأوراق على وقع ما قد تحمله تطورات الوضع في روسيا وحربها في أوكرانيا وضرورات الحملة الانتخابية الأمريكية تماماً كما ضرورات إيران في تسييل اتفاقاتها مع السعودية وحلفائها التي تحتاج أولاً وأخيراً إلى ضوء أخضر أمريكي.
منصة إعلامية إلكترونية تنقل الحدث الإخباري بشكلٍ يومي تعني بالشؤون المحلية والعربية والعالمية تشمل مواضيعها كافة المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية إضافة إلى أخبار المنوعات وآخر تحديثات التكنولوجيا