تسعى تركيا إلى طرح نفسها بقوة كفاعل رئيسي في الساحة الأفريقية، لا سيما منطقة الساحل، وتكريس وجود دائم لها هناك؛ وذلك عبر مساعيها الحثيثة لتطوير علاقاتها مع دولها، وتدشين شبكة من التحالفات الإقليمية المرتبطة بها، تضمن لأنقرة تأمين مصالحها الاستراتيجية في المنطقة وجوارها الإقليمي، مثل الشمال الأفريقي وغرب أفريقيا، وصولاً إلى شرقها أيضاً؛ إذ تنظر أنقرة إلى منطقة الساحل باعتبارها امتداداً استراتيجياً لمنطقة القرن الأفريقي، في ضوء تداخل العديد من الملفات الشائكة بينهما، مثل محاربة الإرهاب والنزاعات والصراعات في بعض دول المنطقة التي تمثل حلقة وصل بين المنطقتين المهمتين، مثل السودان؛ ما يدفع أنقرة إلى محاولة الربط بين المنطقتين، في سبيل تمديد نطاق نفوذها الجغرافي، بما يحقق أهدافها ومصالحها الحيوية هناك.
وتستغل أنقرة موجة التحولات الجوهرية التي تشهدها بعض دول الساحل على مدار السنوات الأخيرة في تقديم نفسها كقوة داعمة للاستقرار يمكنها لعب دور مهم في العديد من الأزمات والملفات الشائكة على المستوى الأفريقي، مثل الحرب على الإرهاب، وأزمة الهجرة غير الشرعية، وتحديات التنمية، وهو ما يعزز مكاسبها الاستراتيجية على الصعيدين الأفريقي والدولي فيما يتعلق بالترحيب الأفريقي بدور تركي بارز في معالجة قضايا المنطقة، بما في ذلك الإرهاب، وما يرتبط به من ترويج للصناعات العسكرية التركية في السوق الأفريقية الشاسعة، إضافة إلى مزاحمة النفوذ الدولي والتموضع بديلاً للأوروبيين، لا سيما فرنسا، في الساحل ومقايضتهم على بعض الملفات الشائكة، مثل تصدير الإرهاب واللاجئين غير الشرعيين في مناطق استراتيجية أخرى مثل الشرق الأوسط وأوكرانيا.
تحركات متعددة
هناك جملة من المؤشرات تعكس تنامي اهتمام تركيا بتعزيز حضورها ونفوذها في منطقة الساحل خلال الفترة الأخيرة، ويمكن الإشارة إلى أبرزها على النحو التالي:
1– التقارب مع الأنظمة العسكرية الحاكمة: تُضاعف أنقرة محاولاتها لكسب ثقة النخبة العسكرية الحاكمة الجديدة في الساحل؛ وذلك في إطار سياستها الرامية إلى تنويع حلفائها والترويج لصادراتها التسليحية في المنطقة الأكثر اضطراباً في القارة الأفريقية خلال السنوات الأخيرة. وقد سارعت الدبلوماسية التركية إلى فتح قنوات اتصال طبيعية مع قادة الانقلاب المالي في أغسطس 2020 عقب اللقاء الذي جمع مولود تشاويش أوغلو وزير الخارجية التركي السابق، في إطار مساعيها إلى احتضان النخب الحاكمة الجديدة في المنطقة لتوطيد التقارب بينهما في المرحلة المقبلة.
كما تبنَّت أنقرة موقفاً مغايراً للغرب بالتجاوب مع المجلس العسكري الانتقالي في النيجر التي تعد دولة محورية بالنسبة إليها في الساحل؛ لقربها من ليبيا؛ ما يعزز المصالح الحيوية للأتراك هناك. وقد أبدت أنقرة اهتمامها بتأمين استقرار وسيطرة الأنظمة العسكرية الجديدة في بعض دول الساحل، بما أحدث نقلة في العلاقات الثنائية بين الطرفين خلال السنوات الأخيرة، لا سيما في ضوء الدعم الذي قدَّمه الأتراك لبعض الحكومات، مثل مالي في مواجهة تمرد بعض الحركات المسلحة المتمردة (تنسيقيات حركة أزواد في شمال البلاد) بعدما أعلنت أنقرة دعمها لسيادة مالي وسلامة أراضيها.
2– استمالة الرأي العام الأفريقي: تقدم أنقرة نفسها كحليف وشريك استراتيجي لدول الساحل، ومناهض قوي للاستعمار الغربي، مستغلةً تصاعد المشاعر المعادية لفرنسا والغرب في بعض دول الساحل، مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر ووسط أفريقيا، الذي ترتب عليه التراجع الفرنسي الملحوظ في المنطقة، في مقابل الترحيب الأفريقي بالدور الروسي من أجل دعم محاربة الإرهاب، وهو ما دفع أنقرة إلى محاولة تعزيز حضورها في الساحل، مستهدفةً إقامة وجود تركي قوي هناك، لا سيما في النيجر ومالي؛ خوفاً من تقليص نفوذها لصالح خصوم إقليميين ودوليين هناك.
3– توسع حجم التجارة التركية مع دول الساحل: يفسر حجم العلاقات الاقتصادية والتجارية طبيعة العلاقات التركية الأفريقية؛ فقد زادت التجارة بين أنقرة والدول الأفريقية من 5 مليارات دولار إلى 25 مليار دولار على مدار العقدين الماضيين، مع تدشين نحو 43 مجلس أعمال تركياً أفريقياً في جميع أنحاء القارة. وتسعى أنقرة إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع دول الساحل في إطار مساعيها لربط دول المنطقة بالاقتصاد التركي، بما يضمن توسيع النفوذ التركي في المنطقة خلال السنوات المقبلة.
4– الاستثمار التركي في أزمات المنطقة: تتيح الأزمات الجيوسياسية في الساحل، مثل الإرهاب وانتشار الفقر والمجاعة والصراعات القبلية والسياسية، فرصة أكبر للسياسة التركية للانخراط في المنطقة بشكل متزايد، سعياً وراء توطيد نفوذها الإقليمي هناك، خاصةً أنها تستفيد من تعقد التفاعلات الدولية والإقليمية في المشهد الإقليمي المعقد، وما يشهده من تراجع غربي كفاعل أمني. ومن ثم تسعى أنقرة إلى موازنة نفوذ القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة وفرنسا والصين وكذلك روسيا هناك.
وتتميز السياسة التركية ببرجماتية عالية لاستغلال الأحداث المتسارعة في الساحل، ومحاولة توظيفها لصالحها؛ فقد أشارت تقارير في 27 يناير 2024 إلى وجود خطة تركية لإرسال مرتزقة سوريين إلى النيجر للمشاركة في مهام قتالية هناك؛ وذلك في ضوء المساعي التركية لطمأنة دول التحالف الأمني الثلاثي الإقليمي في الساحل (النيجر وبوركينا فاسو ومالي) بالدعم التركي، خاصةً عقب انسحابها من تكتل إيكواس على خلفية التوترات المتصاعدة بين الطرفين خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
5– ملء الفراغ الذي خلَّفه الغرب في الساحل: تحاول أنقرة استغلال معضلة الغرب في الساحل عقب إلغاء حكومة النيجر اتفاقية التعاون الدفاعي مع الولايات المتحدة في مارس 2024، وانسحاب القوات الفرنسية والأوروبية من بعض دول المنطقة، لا سيما مالي والنيجر، بالانخراط هناك كبديل مناسب؛ وذلك خوفاً من تزاحم العديد من القوى الإقليمية والدولية نحو المنطقة، لا سيما مع توسع النفوذ الروسي الذي حقق اختراقات واسعة هناك خلال السنوات الأخيرة، في الوقت الذي تسعى فيه عدد من القوى الفاعلة لتعزيز حضورها في الساحل، مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا وإيران؛ حيث منحت بكين الحكومة المالية بعض المعدات العسكرية لدعمها في مجال مكافحة الإرهاب، في حين أعلنت موسكو في أكتوبر 2023 استعدادها لتدشين محطة للطاقة النووية في مالي.
بينما تسعى طهران إلى تأكيد حضورها في المنطقة، وهو ما تكشف عنه زيارة حسين أمير عبد اللهيان وزير الخارجية الإيراني، في أغسطس 2022 إلى مالي لدعمها في مواجهة الضغوطات الإقليمية والدولية، إضافة إلى توقيع طهران في أكتوبر 2023 عدداً من اتفاقات تعاون مع بوركينا فاسو في مجالات الطاقة وتخطيط المدن والتعليم العالي والبناء، وإعلانها إنشاء جامعتين في مالي، بالإضافة إلى توقيع عدد من اتفاقات التعاون معها؛ الأمر الذي يشكل ضغطاً على السياسة التركية في الساحل في ضوء تنامي التنافس الإقليمي والدولي هناك.
6– تطوير العلاقات العسكرية والأمنية مع الساحل: وهي تمثل القوة الدافعة للسياسة التركية في المنطقة؛ حيث تحرص أنقرة على دعم العلاقات الدفاعية مع دولها. وتولي أنقرة أهمية كبيرة للدائرة الأفريقية في المجال الأمني؛ فقد أضحت السياسة التركية تجاه أفريقيا أكثر عسكرةً منذ عام 2015 بهدف تعزيز نفوذها الجيوسياسي في الساحل والقارة بأكملها، وهو ما تجلى في إبرام أنقرة المزيد من اتفاقيات التعاون الأمني مع معظم دول المنطقة، مثل موريتانيا وجامبيا وكوت ديفوار وتشاد والسودان وغينيا ونيجيريا وبنين والنيجر؛ ففي عام 2020 وقعت أنقرة اتفاقية تعاون عسكري مع النيجر، مع احتمال افتتاح قاعدة عسكرية تركية مستقبلاً. وفي العام نفسه، وقعت أنقرة اتفاقاً دفاعياً مع نيجيريا، قبل زيارة الرئيس التركي أردوغان إلى أبوجا في أكتوبر 2021 لتعميق العلاقات الثنائية بين البلدين.
كما وقعت أنقرة عدداً من اتفاقيات التعاون العسكري مع بعض دول الساحل وغرب أفريقيا مثل توجو في أغسطس 2021، والسنغال في فبراير 2022، إضافة إلى الدعم المالي الذي قدمته أنقرة إلى بعض دول الساحل بهدف تعزيز مكافحة الإرهاب؛ حيث منحت مجموعة دول الساحل الخمس في مارس 2018 نحو 5 ملايين دولار لتعزيز قدرات دولها في مواجهة الإرهاب، وهو ما يشير إلى بدء حقبة جديدة في العلاقات الأمنية بين تركيا ودول الساحل وغرب أفريقيا.
7– الترويج للصناعات العسكرية التركية: تستغل أنقرة الصراعات الداخلية في الساحل لتوسيع صادراتها التسليحية لدولها، من خلال ترويجها للصناعات العسكرية وإمكانية تصدير الطائرات المقاتلة، بما في ذلك المسيرات “الدرونز” إلى بعض حكومات الساحل التي تعاني بلدانها من تصاعد نشاط الإرهاب، مثل بوركينا فاسو والنيجر ومالي. وتمثل صفقات المسيرات التركية عاملاً حاكماً في تطور العلاقات بين تركيا ودول الساحل، وتلعب دوراً بارزاً في دعم نفوذ أنقرة على الساحة الأفريقية.
وقد أضحت الطائرات المسيرة التركية من القطع الأساسية لأسلحة جيشَي مالي وبوركينا فاسو لاستخدامها في حربهما ضد الإرهاب؛ ففي يناير 2024، حصلت حكومة باماكو على 20 مسيرة؛ من بينها طائرات بيرقدار TB2 التركية الصنع، كما حصلت على 3 طائرات أخرى وأربع مقاتلات من طراز L39 Batros في مارس 2023. وحصلت النيجر في مايو 2022 على مسيرات تركية لتوظيفها في محاربة الإرهاب هناك. وتقوم أنقرة بتصدير هذا النوع من الطائرات إلى بعض دول المنطقة الأخرى مثل تشاد وتوجو.
8– تزايد المشروعات التنموية التركية: تمزج السياسة التركية في أفريقيا بين عناصر القوة الناعمة والصلبة، وتحرص أنقرة على تعزيز قوتها الناعمة في منطقة الساحل من خلال تدشين العديد من المشروعات التنموية في بعض دول المنطقة مثل مالي؛ إذ تنشط وكالة التعاون والتنسيق التركية “تيكا” في نحو 22 دولة أفريقية بهدف معالجة بعض القضايا الأفريقية ومعالجة الدوافع الاقتصادية والاجتماعية للإرهاب في غرب أفريقيا بالأساس، وتدير عدداً من المشروعات في بعض بلدان المنطقة، مثل السنغال وتشاد والنيجر وتوجو، كما تمتلك مؤسسة المعارف التركية عدداً من المدارس في 26 دولة أفريقيا بما في ذلك تشاد والسنغال ومالي والنيجر وجامبيا والجابون وغينيا وغيرها.
تداعيات محتملة
يحمل التوجه التركي نحو الساحل العديد من التداعيات المحتملة حول مستقبل التفاعلات في المنطقة خلال الفترة المقبلة، ويتمثل أبرز تلك التداعيات المحتملة فيما يلي:
1– ترسيخ شرعية الأنظمة الحاكمة الجديدة: تسعى النخبة العسكرية الحاكمة الجديدة في الساحل إلى كسب المزيد من الحلفاء عبر تنويع تحالفاتها الدولية بهدف تخفيف حدة الضغوط الدولية والإقليمية التي تمارسها عليها القوى الفاعلة هناك، لا سيما فرنسا، وهو ما يعزز تحركات أنقرة في الساحل التي تلقى ترحيباً أفريقياً في ضوء التغيرات والتحولات الجوهرية التي تشهدها المنطقة خلال السنوات الأخيرة.
2– توفير فرص اقتصادية لدول الساحل: يعد تصاعد التنافس الإقليمي والدولي في الساحل بمنزلة فرصة جيدة لبعض حكومات المنطقة التي تعزز استفادتها من خلال ضخ المزيد من المشروعات التنموية التي تقدمها القوى المتنافسة في دول المنطقة، وكذلك تقديم المساعدات الاقتصادية والتنموية والإنسانية التي تحصل عليها حكومات المنطقة، في سبيل تعزيز النفوذ الدولي هناك، وإن كان ذلك يمثل سلاحاً ذا حدين في ضوء المخاوف من تصاعد عسكرة المنطقة؛ نتيجةَ تزاحم القوات الأجنبية في المنطقة، واحتمال الصدام من جانب القوى الدولية الفاعلة من أجل الاستيلاء على الموارد والثروات الأفريقية.
3– مضاعفة الصادرات التسليحية التركية لأفريقيا: لدى تركيا مصلحة حيوية في تعزيز علاقاتها مع دول الساحل. واستمرار السياق الأمني المضطرب في المنطقة يصب أيضاً في مصلحتها؛ لكونه يضمن لأنقرة التوسع في حجم صادراتها التسليحية إلى مناطق التوتر والصراعات في القارة الأفريقية، وهو ما يعزز نفوذها وحضورها هناك خلال المرحلة المقبلة.
4– إقامة مشروعات إقليمية منافسة: يمثل التوجه التركي نحو منطقة الساحل مصدر قلق للعديد من الدول، مثل المغرب الذي أطلق مشروعاً منافساً لمشروع ممر عبر الصحراء، وهو المشروع الذي أطلقته أنقرة؛ حيث أكدت الرباط في سبتمبر 2023 استعدادها لتطوير البنية التحتية في دول بوركينا فاسو والنيجر وتشاد. يتزامن ذلك مع تزايد تحركات الجانب الإيراني في الساحل؛ حيث طورت طهران علاقاتها مع كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر منذ عام 2020 في سبيل تعزيز نفوذها وحضورها هناك. وهو ما قد يعزز تنامي التنافس الإقليمي بمشروعات متنافسة ومصالح متضاربة بين الفاعلين في المنطقة، وربما يترتب عليه مزيد من التوتر على الساحة الأفريقية.
5– توسيع الفجوة بين دول الساحل والغرب: قد تدفع أنقرة نحو هذه الخطوة بهدف ضمان تمدد النفوذ التركي في الساحة الأفريقية على حساب خصومها الإقليميين والدوليين، الذي تغذيه تطور العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية بين تركيا ودول الساحل، والانخراط في أزماتها المعقدة في سبيل تأكيد الدور التركي هناك على مدار السنوات الأخيرة، وهو ما قد يترتب عليه تزايد التوتر بين تركيا وبعض القوى المنافسة لها، مثل فرنسا، بسبب الخلاف بينهما على بعض الملفات الشائكة، مثل الحالة الليبية وأزمة شرق البحر الأبيض المتوسط، وربما يؤدي إلى نشوب صراعات بالوكالة في المنطقة، وتصاعد التوترات بين القوى الدولية في الساحل وغرب أفريقيا، وربما يؤثر على التعاون التركي الأوروبي هناك خلال المرحلة المقبلة.
إجمالاً، تحولت تركيا إلى لاعب رئيسي في أفريقيا، لا سيما منطقة الساحل عبر بوابة الاقتصاد والتسليح بجانب الدين. وبالرغم من أنها ليست قوة اقتصادية وعسكرية تضاهي قدرات القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين وأوروبا، فإن تحركاتها على الساحة الأفريقية قد أكسبتها علاقات قوية في فترة زمنية قصيرة، ورسختها كفاعل رئيسي في القارة. ومن المرجح أن يتزايد نفوذ تركيا في الساحل خلال الفترة المقبلة، مستفيدةً من التراجع الغربي – لا سيما الفرنسي – هناك؛ وذلك في ضوء مساعي أنقرة لموازنة النفوذ الدولي المتعدد الأطراف على القارة بشكل عام، والساحل بشكل خاص.
منصة إعلامية إلكترونية تنقل الحدث الإخباري بشكلٍ يومي تعني بالشؤون المحلية والعربية والعالمية تشمل مواضيعها كافة المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية إضافة إلى أخبار المنوعات وآخر تحديثات التكنولوجيا