ناشد مسؤولو الإقليم الانفصالي ترانسنيستريا القائم في دولة مولدوفا، يوم 28 فبراير 2024، روسيا توفير الحماية للإقليم ضد “الانتهاكات والضغوط المُمارَسة عليه من قِبل الحكومة المركزية في تشيسيناو”. وتأتي هذه المناشدة وسط مخاوف من تحول مولدوفا إلى ساحة جديدة من ساحات الصراع الروسية الغربية؛ وذلك على غرار الوضع القائم في أوكرانيا حالياً، وخاصةً أن موسكو قابلت هذه الدعوة بتأكيد دعم مطالب الإقليم، ووقوفها بجانب حقوق السكان الروس فيه.
خلفيات القضية
تُعَد قضية إقليم ترانسنيستريا من القضايا الخلافية بين روسيا من ناحية وبين دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا من ناحية أخرى؛ حيث يسعى كل طرف إلى تعزيز هيمنته على الدولة الصغيرة المطلة على البحر الأسود، عبر إدارة الصراع القائم بين الإقليم الانفصالي والحكومة المركزية في تشيسيناو. ويمكن فهم مطالب الإقليم الأخيرة من خلال الآتي:
1– دعوة ترانسنيستريا موسكو إلى توفير الحماية للإقليم: طالب مسؤولو إقليم ترانسنيستريا الانفصالي روسيا بالتدخل وحمايتهم من السياسات الاقتصادية غير العادلة التي تُمارِسها تشيسيناو وبروكسيل ضد الإقليم؛ وذلك خلال اختتام أعمال اجتماع “مؤتمر جميع النواب”، الذي استضافته عاصمة ترانسنيستريا “تيراسبول” في 28 فبراير الماضي. وقد انتهى الاجتماع بإصدار 7 مطالب رئيسية إلى كل من موسكو، والأمم المتحدة، ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبية؛ هذا بجانب البرلمان الأوروبي، والصليب الأحمر.
2– اتهام مولدوفا بالضغط الاقتصادي على ترانسنيستريا: فقد طالب مسؤولو ترانسنيستريا مولدوفا بوقف ضغوطها الاقتصادية على الإقليم؛ فمنذ مطلع عام 2024، تضطر الشركات الموجودة بالإقليم التي تتاجر مع الاتحاد الأوروبي، إلى دفع رسوم جمركية للسلطات في تشيسيناو. وقد أثرت هذه الجمارك تأثيراً سلبياً على اقتصاد الإقليم، الذي تُشكِّل التجارة بينه وبين الاتحاد الأوروبي 70% من إجمالي عوائده الاقتصادية الكلية.
3– مراهنة مسؤولي ترانسنيستريا على أهمية لإقليم لموسكو: يبدو أن مسؤولي الإقليم يراهنون في طلبهم الحماية من جانب موسكو على الأهمية الاستراتيجية للإقليم بالنسبة إلى موسكو؛ إذ يتميز إقليم “ترانسنيستريا” بكونه شريطاً ضيقاً من الأراضي يقع في شرق مولدوفا، ويضم عبر أراضيه نهراً وبحراً في الوقت ذاته؛ فقد كانت حدود الإقليم تمتد على طول نهر دنيستر؛ حيث إن الأراضي الواقعة إلى الغرب تسمى بيساربيا، وهي الأراضي التي كانت تعتبر جزءاً من رومانيا، وإلى الشرق تقع ترانسنيستريا، التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي. وبعد توحيد بيساربيا مع الاتحاد السوفييتي في عام 1940، أعيد تشكيل جمهورية “مولدوفا” الاشتراكية السوفييتية، التي ضمت إقليم “ترانسنيستريا”، الذي تمر عبر أراضيه نهر دنيستر الذي يصب في البحر الأسود. ويُعَد إقليم ترانسنيستريا حلقة الوصل بين أوكرانيا وعدد من دول أوروبا الشرقية، وعلى رأسها رومانيا.
4– استمرار تبني الإقليم مسار الانفصال عن مولدوفا: أعلن إقليم ترانسنيستريا عن استقلاله في عام 1990؛ وذلك تزامناً مع تراجع سيطرة الاتحاد السوفييتي على دول أوروبا الشرقية، التي سعت إلى الاستقلال في أعقاب تراجع قوة الاتحاد. ويعود تاريخ النزاع المسلح بين مولدوفا وترانسنيستريا إلى أواخر ثمانينيات القرن الماضي، عندما اعتمد المجلس الأعلى لجمهورية مولدوفا عام 1989 قانون اللغة، الذي سَمَّى اللغة المولدوفية لغةً رسميةً وحيدةً في البلاد، مع رفضه الاعتراف باللغة الروسية الأكثر انتشاراً واستخداماً في الإقليم.
وعقب اعتماد برلمان مولدوفا هذا القانون، أعلنت سلطات الإقليم استقلالها، لتندلع اشتباكات عسكرية بين القوات الانفصالية الموالية لحكومة ترانسنيستريا المدعومة من موسكو من جهة، وبين القوات الموالية لحكومة مولدوفا من الجهة الأخرى. وقد تصاعدت حدة الاقتتال بين مولدوفا وترانسنيستريا في عام 1991؛ وذلك على خلفية محاولة الانقلاب التي قامت بها لجنة الطوارئ الحكومية في أغسطس 1991، ضد “جورباتشوف”؛ ففي أعقاب فشل الانقلاب، تصاعدت المطلب بانفصال مولدوفا عن الاتحاد السوفييتي؛ هذا في الوقت الذي أيَّدت فيه حكومة ترانسنيستريا المجموعة الانقلابية في موسكو، وصرَّحت بأنها تعترف حصرياً بقياد اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية. وقد استمر الصراع حتى تم التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في يوليو 1992 بين الجانبين بوساطة روسية.
وقد نصَّت بنود الهدنة التي تم التوقيع عليها في العاصمة الروسية موسكو، على نشر فرقة عسكرية من الجيش الروسي باعتبارها قوات حفظ السلام في المنطقة الفاصلة التي تم رسمها بين الإقليم ومولدوفا. ويستمر عمل قوات حفظ السلام الروسية في هذه المنطقة حتى هذه اللحظة، ويبلغ عددها 1500.
وقد فرضت الحكومة الانفصالية المعروفة باسم جمهورية ترانسنيستريا المولدوفية، سيادتها على الإقليم منذ عقود. ورغم امتلاك الإقليم عملته المحلية وعلمه المحلي، ومؤسساته الأمنية والعسكرية والاقتصادية، فإنه ما زال يفتقر إلى الاعتراف الرسمي، سواء من الأمم المتحدة، أو من أي دولة أخرى، بما في ذلك روسيا. ويضم الإقليم عرقيات مختلفة، تشمل كلاً من الروس والأوكران والمولدوفيين بنسب مختلفة.
5– تصاعد التوترات بين ترانسنيستريا ومولدوفا عقب حرب أوكرانيا: بدأت التوترات تعود من جديد إلى الإقليم في عام 2022؛ وذلك بسبب الوضع الجيوسياسي الذي تشهده منطقة شمال البحر الأسود عامةً، بما يشمل الصراع في أوكرانيا؛ فمنذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، يعاني إقليم ترانسنيستريا من نقص حاد في الموارد والإمدادات التي تأتي معظمها من المساعدات الروسية عبر ميناء “أوديسا” الأوكراني، الذي قامت أوكرانيا بإغلاقه هو وكامل حدودها مع “ترانسنيستريا” رداً على الهجوم الروسي على أوكرانيا. وبناءً على ذلك، أصبح الوصول إلى الإقليم المُنعزل منحصراً على طريق مولدوفا فقط التي أغلقت هي أيضاً مجالها الجوي أمام الطائرات الروسية بعد فترة قصيرة من الحرب، كما أثارت مجهودات الحكومة المولدوفية لتوحيد المنطقة، قلق سلطات ترانسنيستريا.
تَبِعات محتملة
جاءت ردود الفعل متباينةً تجاه النداء الأخير الذي قدمته حكومة إقليم ترانسنيستريا إلى الحكومة الروسية. وبوجه عام، يمكن تناول أهم التبعات المحتملة لهذا التطور على النحو التالي:
1– تأكيد موسكو التزاماتها تجاه إقليم ترانسنيستريا: ردَّت روسيا على طلب مسؤولي إقليم ترانسنيستريا، بتأكيد أن أولوياتها في الوقت الحالي تتمثل في توفير الحماية لجميع المواطنين الروس داخل وخارج أراضيها، وهو ما يعني الاستجابة لطلب حكومة إقليم ترانسنيستريا؛ وذلك في الوقت الذي رفضت فيه الحكومة المولدوفية مطالب إقليم ترانسنيستريا، ووصفتها بالتصريحات الدعائية المضللة، مضيفةً أن المنطقة ستستفيد من سياسات السلام والأمن والتكامل الاقتصادي مع الاتحاد الأوروبي.
2– استمرار التراجع في العلاقات الروسية–المولدوفية: شهدت العلاقات الروسية المولدوفية تراجعاً كبيراً عقب شن موسكو حربها ضد أوكرانيا. ويضاف إلى ذلك وصول حكومة موالية للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى رأس السلطة في مولودوفا. وكان للحرب التي شنتها روسيا في أوكرانيا أيضاً تأثير عميق على اقتصاد ترانسنيستريا؛ فقد تم منع وصول نحو ربع التجارة عنها، كما أنها لا تتلقى الغاز المجاني من روسيا رغم الاتفاقية بسبب عدم سماح أوكرانيا بدخوله.
استغلت مولودوفا انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا لممارسة الضغوط أيضاً على ترانسنيستريا؛ من أجل إنهاء الصراع المستمر منذ عقود. يُضاف إلى ذلك، ترشيح الاتحاد الأوروبي مولدوفا لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي في يونيو 2022. وفي ديسمبر 2023، بدأت مفاوضات الانضمام. ويتصاعد مع هذه المفاوضات، مخاوف ترانسنيستريا من أن تشمل هذه العملية ضم الإقليم نفسه، بالرغم من تصريح رئيسة مولدوفا “مايا ساندو” باستعدادها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي دون ضم الإقليم. ويتزامن ذلك أيضاً مع اتهام حكومة مولدوفا الكرملين بالمضي قدماً في حملة ترمي إلى زعزعة استقرار البلاد.
3– مواصَلة الحملة الدعائية لقادة ترانسنيستريا مع اقتراب انتخابات مولدوفا: يرجع البعض تبنيَ قادة الإقليم هذه الدعاية – بالتزامن مع تحقيق موسكو المزيد من الانتصارات في حربها بأوكرانيا – إلى سعيهم إلى تحسين وضع الإقليم، ودفع موسكو نحو الإقدام على إعلان استقلاله بصورة كاملة، وضمه إلى الاتحاد الروسي. يضاف إلى ذلك، اقتراب عقد انتخابات رئاسية جديدة في مولدوفا، وهي الانتخابات التي من المقرر أن تقام في أكتوبر 2024، وسعي الجناح المؤيد لروسيا إلى استغلال الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد، خاصةً الأزمة المرتبطة بتوقف إمدادات الغاز القادمة من موسكو؛ لدفع المواطنين نحو التصويت لصالح هذا الاتجاه، ومضاعفة مخاوفهم من انفصال إقليم ترانسنيستريا نهائياً عن مولودوفا، واحتمال تعرُّض تشيسيناو لحملة عسكرية شبيهة بتلك التي تتعرَّض لها كييف حالياً.
4– سعي روسيا إلى إحكام السيطرة على الجنوب الأوكراني والبحر الأسود: صرَّحت موسكو بأن روسيا تعتبر حماية مواطنيها أمراً مهماً ومن أحد أولويتها، ومنذ الأسابيع الأولى للهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا، صرَّح قائد المنطقة العسكرية المركزية الروسية آنذاك، بأن أحد أهداف العملية العسكرية الخاصة إنشاء ممر عبر جنوب أوكرانيا يمتد إلى ترانسنيستريا؛ لضمان حماية وأمن الأقليات الروسية عبر هذا الشريط.
وقد حذر معهد دراسة الحرب في الولايات المتحدة، في وقت سابق، من أن الكرملين يسعى إلى استخدام ترانسنيستريا وسيلةً لعرقلة عملية انضمام “مولدوفا” إلى الاتحاد الأوروبي؛ ما قد يساعد على توسيع دائرة الصراع في المنطقة غير المستقرة. يضاف إلى ذلك أن موقع ترانسنيستريا الاستراتيجي عبر البحر الأسود يعزز هيمنة موسكو على البحر، والمناطق الجنوبية من الأراضي الأوكرانية؛ ما يعني إحكام تطويق أوكرانيا من الجنوب، بعد نجاح المهمة الروسية في هذا الأمر عبر الشرق الأوكراني.
5– تحركات أمريكية–أوروبية لتقديم الدعم لمولدوفا: صرَّح منسق الاتصالات الاستراتيجية في البيت الأبيض “جون كيربي” بأن روسيا تحاول إثارة تمرد في مولدوفا الموالية لأوكرانيا ورومانيا. وقد عبَّر عن هذا التخوف عدد من المسؤولين في الاتحاد الأوروبي. وقد ضاعفت تصريحات المسؤولين الروس حالة الخوف والترقب؛ حيث علق “سيرجي لافروف” وزير الخارجية الروسي على هذا الأمر بالقول إن أي عمل عدواني ضد قوات بلاده المتمركزة في مولدوفا، ستنظر إليه موسكو باعتباره اعتداءً مباشراً على سيادة وسلامة أراضيها.
خلاصة القول: مع عودة ملف الإقليم الانعزالي إلى تصدُّر المشهد السياسي المرتبك في شرق القارة الأوروبية، بجانب الحرب القائمة في أوكرانيا منذ ما يزيد عن عامين، من المتوقع أن تعمد كل من روسيا والاتحاد الأوروبي المساند للحكومة المركزية في مولدوفا إلى اتخاذ مواقف أكثر تشدداً، والنظر إلى مولودوفا وترانسنيستريا باعتبارها ساحةً جديدةً من ساحات الاقتتال في الحرب التي تشنها موسكو ضد كييف؛ ففي حالة حصول ترانسنيستريا على الاستقلال فلن تقبل مولدوفا بذلك؛ لأن ذلك يعني خسارتها أحد منافذها الهامة على البحر الأسود، وتحوُّل الإقليم إلى قاعدة ومركز استراتيجي لموسكو. وإذا تم ضم الإقليم إلى مولدوفا، فإن روسيا يمكن أن تصعِّد الموقف، وتعيد تكرار سيناريو جزيرة القرم لعام 2014، لحماية من وصفتهم بمواطنيها، وهم سكان الإقليم المعزول.