اختيار طهران للأهداف كان موفَّقاً بصورة كبيرة، إذ استهدفت القواعد التي خرجت منها الطائرات الصهيونية، التي أطلقت الصواريخ على قنصليتها في دمشق، وهو ما يعكس قدراتها الاستخبارية ودقة أهدافها.
وضعت إيران نهاية لصبرها الاستراتيجي في تعاطيها مع الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على مصالحها وقواتها الموجودة في سوريا، والتي كان آخرها تدمير القنصلية الإيرانية في دمشق.
سبق ذلك قيام “إسرائيل” بعمليات متكررة، كان من نتائجها اغتيال سبعة عشر قائداً ومستشاراً إيرانياً في سوريا، وما رافق ذلك من تهديدات أطلقها قادة الكيان المهزوم، أظهرت حجم حقدهم وحالة الإحباط والتخبط اللذين باتوا يعيشونهما بعد عملية طوفان الأقصى، التي كسرت هيبة الكيان وأسطورة جيشه الذي لا يُقهر.
صبر إيران كان انطلاقاً من سعيها للمحافظة على مشروعها النووي، الذي دفع ثمنه الشعب الإيراني، طوال عقود.
الوقت، من وجهة نظر طهران، “مكسب صلب”، يجب المحافظة عليه بكل ما أُوتيت من قوة، وخصوصاً أنها باتت على أبواب إعلان نجاح برنامجها النووي، وفقاً للتقارير الغربية.
حالة الترقب والانتظار تجعل الوقت يمر كأنه “ثوانٍ دهرية”. فالثانية، على رغم قصرها، فإن مرارة الانتظار تجعلها تمر كأنها دهرٌ.
كيف لا، وقد رهنت الثورة الإسلامية مستقبل طهران وربطته بوجود إيران قوةً دوليةً وإقليمية، قادرة على تغيير موازين القوى في المنطقة، وصولاً إلى تغيير معادلة الصراع مع الكيان الصهيوني المغتصب.
القراءة الهادئة للأحداث حتّمت على طهران العمل على التهدئة والسعي لعدم تطور الحرب في غزة، مع الالتزام الكامل بشأن دعم محور المقاومة وعدم السماح بهزيمته مهما كان الثمن.
“إسرائيل”، من جهتها، نتيجة لفشلها الاستراتيجي في عملية طوفان الأقصى، وعدم قدرتها على تحقيق أهدافها التي أعلنتها في حربها على غزة، جعلت العالم كله يدرك الخديعة التي استطاعت ترويجها، عقوداً طويلة، عبر ظهورها في دور الضحية، بينما هي الجلاد بكل بطشه وقسوته، كما اتضح ذلك للعالم كله.
لا بدّ من الرد على الاستفزاز
على رغم إدراك طهران رغبة الكيان الصهيوني في جرها إلى المواجهة معه، ومحاولتها تجنب ذلك، فإنها وجدت نفسها مكرَهة على الرد، من أجل استعادة هيبة الردع التي اعتقد الكيان أنها فقدتها.
العمليات الكثيرة، التي نفذتها “إسرائيل” في الداخل الإيراني، بصورة مباشرة، أو عبر تنظيم “داعش خراسان”، المتحالف معها ومع الولايات المتحدة الأميركية، استطاعت طهران الرد عليها بصورة منضبطة، إلى حد كبير.
لكن، عندما جاء الاعتداء مباشرة على ما يُعَدّ جزءاً من الأراضي الإيرانية (مبنى القنصلية)، كان لا بد من الرد المباشر داخل “إسرائيل”، وهو ما حدث فعلاً.
حتمية الرد كانت استجابة لمطالب الشعب الإيراني أولاً، ولطمأنة حلفاء طهران ثانياً، والثأر لدماء الشهداء ثالثاً، وليس أخيراً بكل تأكيد.
اختيار طهران للأهداف كان موفَّقاً بصورة كبيرة، إذ استهدفت القواعد التي خرجت منها الطائرات الصهيونية، التي أطلقت الصواريخ على قنصليتها في دمشق، وهو ما يعكس قدراتها الاستخبارية ودقة أهدافها.
كانت العملية محسوبة بذكاء ودهاء، وليس بقوة أو تصعيد، انطلاقاً من الفهم الإيراني لطبيعة الصراع بينها وبين الكيان الصهيوني، كونه صراعاً حضارياً يستند إلى عداء فكري وتهديد وجودي، مع ما يمثله كل منهما بالنسبة إلى الآخر، وليس صراعاً عسكرياً فقط.
فالصراع العسكري ليس مع “إسرائيل” وحدها، بكل تأكيد، بل أيضاً مع الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية. وبالتالي، فالمواجهة العسكرية تحتّم على طهران التنسيق مع حلفائها الدوليين، وخصوصاً الصين وروسيا، التي أعلن رئيسها أن بلاده لن تقف على الحياد إذا تطورت المواجهة.
الحوارات، التي جرت بشأن فعّالية الرد من الناحية العسكرية، والتي تراوحت بين التهويل والتهوين، كانت نابعة من التوجهات الأيديولوجية لأصحابها، أكثر مما هي نتيجة لقراءة موضوعية للمشهد وتبعاته.
فالرسالة كانت سياسية أكثر مما هي عسكرية، وهو ما حتّم على قادة الكيان التراجع عن تهديداتهم السابقة بالرد المباشر على طهران، والتفكير في الرد بطريقة استراتيجية تحتّم عليهم الإجابة عن سؤال: ماذا بعد؟
الموقف الإيراني بدا حازماً، ومدعوماً بتأييد شبه مطلق من الشعب الإيراني، عبر مختلف انتماءاته وتوجهاته. فالجميع يريد الرد، لكنهم قد يتباينون بشأن الأهداف المرجوة منه.
كما وضع بداية لمرحلة جديدة في علاقة طهران بالكيان الصهيوني، الذي استهدفته هذه المرة، بصورة مباشرة، وبطريقة مذلة.
فكانت عملية “الوعد الصادق” أكبر وأطول عملية في التاريخ العسكري لهجوم بالطائرات المسيرة، والتي انطلقت، في وقت واحد، واستهدفت عدواً واحداً.
ستون طناً من المتفجرات حصيلة ما تم إطلاقه نحو الكيان الصهيوني، أظهرت أن “إسرائيل” باتت نمراً من ورق، تولت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وبعض الدول العربية مهمة الدفاع عنه.
وكان من أولى نتائجها تعزيز الخلافات داخل حكومة الحرب الصهيونية، وتأكيد حالة الفشل والترهل، اللذين باتت تعيشهما المؤسسة العسكرية الصهيونية، بصورة عامة.
فبينما استطاع جهاز الاستخبارات الجوية تنفيذ عملية عسكرية ناجحة، من وجهة نظره، عبر استهدافه القنصلية الإيرانية وتدميرها، إلا أن جهاز الاستخبارات العسكرية الصهيونية، “أمان”، فشل فشلاً ذريعاً في تقدير الموقف بشأن الرد الإيراني المتوقَّع، بحيث رأى أن طهران لن ترد، ولا يمكنها فعل ذلك أصلاً.
رئيس الحكومة الصهيونية بدا مرتبكاً وخائفاً، ولم يستطع أن يتفوّه سوى بأربع كلمات (تصدينا؛ أسقطنا؛ معاً سننتصر)، عكست غياب الرؤية الاستراتيجية المتكاملة لديه في كيفية التعاطي مع طهران.
الذباب الإلكتروني والتقليل من أهمية الرد الإيراني
بدا واضحاً حجم الهجمة التي تتعرض لها إيران، والتي عكستها مواقع التواصل الاجتماعي، بحيث برز عدد كبير من المنتقدين لطهران وسياساتها في المنطقة، مؤكدين عدم قدرتها على الرد المباشر على الكيان، وأنها سترد عبر حلفائها، في أبعد تقدير.
التباين مع إيران بشأن سياساتها العربية يمكن تقبله، لكن عدم تأييدها في استهدافها الكيان الصهيوني أمر لا يمكن تبريره إلّا بجهل أو حقد أو خيانة.
لم يقتصر الأمر على التقليل من أهمية الحدث ونتائجه، بل تعدّاه إلى وضعه في خانة أنه جاء لينقذ نتنياهو، ويجنبه الانتقادات التي كان يتعرض لها داخلياً ودولياً، في مشهد كان أقرب إلى العهر السياسي الذي سعى هؤلاء لممارسته ضد طهران.
من تابع الاعلام الصهيوني وردود أفعال المستوطنين والمقاطع التي كانوا يبثّونها، فإنه يرى الفارق بين الواقع الذي نقله هؤلاء، والتزييف والتدليس اللذين استخدمهما عدد من المحطات الناطقة بالعربية، ومن الناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي.
الإعلام الصهيوني وصف تلك الليلة بـ “الليلة التي غيّرت الشرق الأوسط”، ليس نتيجة لحجم العملية وطبيعة الرد فقط، بل لأنها كانت كاشفة عن حلفاء “إسرائيل” من العرب، والذين وصفهم بـ “السنّة” في مسعى منه لإثارة النعرات الطائفية بين شعوب المنطقة.
كان الرد الإيراني ضرورياً من أجل إذلال الكيان الصهيوني وإظهاره في مظهر العاجز، الذي لا يستطيع الدفاع عن نفسه.
أما الخسائر التي تكبّدتها “إسرائيل”، فالزمن وحده هو الكفيل بالإفصاح عنها، وخصوصاً أن الصواريخ العراقية، التي أطلقها النظام السابق على “إسرائيل” في عام 1991، لم يتم الإفصاح عن نتائجها إلا قبل بضعة أشهر، بحيث أشارت الوثائق الأميركية، المفرج عنها، إلى وقوع أربعة عشر قتيلاً بين المستوطنين الصهاينة في حينه، بالإضافة الى الخسائر الكبيرة على صعيد الممتلكات.
يبدو أن طهران تريد إسقاط “إسرائيل”، عبر حرب استنزاف طويلة المدى، تجعل من خلالها تكلفة حماية “إسرائيل” أكبر كثيراً من العائد الذي يمكن أن يقدمه “وجودها”.
تكرار استهداف “إسرائيل” كبار القادة العسكريين الإيرانيين يدل على وجود ثغرة أمنية كبيرة يجب تلافيها، فتطهير الداخل ليس أقل أهمية من مواجهة الخارج.
بات من غير الممكن توقع قيام إيران بتعيين قائد لقوات الحرس الثوري الموجودة في سوريا من دون القدرة على حمايته وتأمينه، بمعنى أن إعلان تعيين قائد جديد سيكون بمثابة إعلان التخلص من أعوان “إسرائيل” وجواسيسها.
ختاماً:
اصطفافات جديدة يبدو أنها بدأت تتشكل، أو هي في الحقيقة كانت تشكّلت مع ما سُمِّي “السلام الإبراهيمي”، والذي جعل الأمن القومي لبعض الدول العربية جزءاً من الأمن القومي لـ”دولة” الاحتلال.
لذا، من المؤكد أن المنطقة تتجه نحو صياغة نظام إقليمي جديد، سيكون لارتدادات الحرب في غزة وتداعياتها اليد الطولى في رسم خرائطه ونسج تحالفاته.
إيران لديها أكبر ورقة للضغط على الغرب، هي مضيق هرمز، فإغلاقه سيؤدي إلى تدمير الصناعات الأوروبية، وسيتسبب بمزيد من التراجع للاقتصاد العالمي كله.
يشار هنا إلى أن أمن المنطقة هو مسؤولية إقليمية اولاً، وعالمية ثانياً. لذا، فإن الحياد الذي تحاول مجموعة من دول المنطقة أن تسلكه يبدو مستحيلاً من الناحية العملية.
لعل أولى الخطوات التي يجب أن تبادر إليها الدول العربية هي دعوة طهران لتكون حاضرة في القمة العربية المقبلة، والتي ستُعقد في المنامة منتصف الشهر المقبل، بسبب ما لذلك من اعتبارات ورسائل سياسية كبيرة، تصب جميعها في تعزيز قوة دول المنطقة، وتزيد في مناعتها الاستراتيجية، وبسبب ما لخصوصية المكان من أهمية لكِلا الجانبين العربي والإيراني، أملاً في الوصول إلى تكوين قناعة مشتركة بأهمية الحوار وحتمية التعاون بين الطرفين.
منصة إعلامية إلكترونية تنقل الحدث الإخباري بشكلٍ يومي تعني بالشؤون المحلية والعربية والعالمية تشمل مواضيعها كافة المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية إضافة إلى أخبار المنوعات وآخر تحديثات التكنولوجيا