عبارة نسمعها من الغادي والداني وفي الأرياف والمدن وفي بلدان منطقتنا ودول الشرق والجنوب أن العالم الذي نعيش به اليوم ليس هو العالم الذي نشأنا به منذ ولادتنا وألفنا قيمه ومفاهيمه وطرائق عمله، ويضيف الكثيرون إننا نشعر بغربة حقيقية اليوم ونجد من الصعب فهم ما يجري حولنا لأنه يناقض كل ما تشرّبناه من المفاهيم والثقافة والقيم، وعلّ العدوان على غزة وجرائم الحرب والإبادة الشنيعة لعشرات الآلاف من الأطفال والأمهات والاستهداف غير المسبوق للمشافي والكوادر الطبية والإعلامية والصمت الدولي عن كل هذه الجرائم ضد الإنسانية أحدث صدمة هائلة في ضمائر معظم البشر الذين لم يشهدوا ارتكاب جرائم بهذا الحجم والسكوت عنها من قبل الآخرين بل الترويج للجلّاد وحقه في الدفاع عن النفس، على حين لا ينتصر أحد أبداً للضحية المظلومة والمنكوبة بأسلحة عصابة دولية صدّعت رؤوسنا بأنها تؤمن بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وتمكين المرأة وحماية الأطفال.. إلخ من ادعاءات كشفت زيفها الحرب الغربية الصهيونية على المدنيين العزّل في غزة.
هذه العصابة الغربية تعيث في الأرض منذ قرون حروباً وتدميراً وإبادة للجنس البشري وعبودية ونهباً لثروات الشعوب مع تغطية إعلامية مجافية للواقع والحقائق تعمد على إيصالها إلى كل أصقاع الأرض لتكون السردية الأساسية المتناولة في كل الأخبار.
ما حدث فعلاً في الحرب على المدنيين في غزة وتبعاته من انكشاف لحقيقة النظام الغربي، ليس عالماً جديداً أو متغيراً ولكن ظهرت ربما للمرة الأولى وبهذا الوضوح حقيقة النظم الغربية التي خادعت العالم على مدى عقود مضت أنها الحامية الأساس لحرية الإنسان وحرية التعبير وحق الإنسان في الحياة والدفاع عن المرأة والطفل ومساعدة الدول لفقيرة ومدّ يد العون لمن يحتاجها من النظم والدول، ولكنّ حقيقة تاريخ وواقع هذه الدول الغربية يبرهن أنها كانت منذ نشأتها دولاً استعمارية استعبدت شعوب أفريقيا وآسيا وأميركا لقرون وأبادت الحضارات الأصلية في الأرض التي وصلوها بأساطيلهم واستخدمت أبشع أساليب التجسس والقتل والفتنة لإبقاء الدول المستعمَرة تحت سيطرتها ومنجماً لها لنهب ثرواتها وتدمير قيمها الحضارية، ولأنّ ضحاياهم من الشعوب لم يمحّصوا التاريخ المتوحش لهذه الدول ولم يولوه العناية والبحث اللازمين فقد استطاعت هذه الدول من خلال آلة إعلامية محكمة وتمويل سخيّ لها أن تصيغ هالة مزيفة عن القيم الغربية على أنها قيم حضارية ترسّخ لحرية الإنسان وحقوقه وحرية التعبير والتي زعموا أنها الأساس في نظم هذه الدول، كما عمل المستشرقون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين على ترسيخ تفوق الإنسان الأبيض وحاجة أصحاب السحنة السمراء والصفراء إلى خبرته وأخلاقياته في بناء نظم الحكم، وكرّست مناهجهم هذا التفوق الغربي على كل بني البشر حتى في عيون الضحايا المستهدَفين من هذه النظرة العنصرية الخبيثة.
ولكنّ العدوان الإسرائيلي المجرم على فلسطين ومساندة الدول الغربية له في السلاح والمال والإعلام واتّباع سرديات كاذبة ومفضوحة لتبرير مواقفهم وكمّ الأفواه حتى في جامعاتهم ومدارسهم وضرب حرية التعبير عرض الحائط وإنزال العقوبات بمن لا يلتزم بمواقفهم المؤيدة للإبادة والتطهير العرقي، أماطت اللثام عن جوهر هذه النظم ولا يمكن لعاقل بعد اليوم أن يدافع عن دعايتها الكاذبة والتي انقشعت مؤخراً كانقشاع الضباب بعد طلوع الشمس، ففي جامعة كولون في ألمانيا تمّ إلغاء العقد الذي وقعته الجامعة مع الفيلسوفة الأميركية اليهودية المشهورة نانسي فرازر، أستاذة الفلسفة والسياسة في المدرسة الجديدة للبحث المجتمعي في نيويورك، لأنها وقّعت على رسالة تعبّر عن التضامن مع الفلسطينيين وتدين القتل الذي ترتكبه القوات الإسرائيلية في غزة، وفي جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة تمّ طرد طلاب فلسطينيين ويهود عبروا عن تضامنهم مع أطفال غزة وتمّ إخراجهم من سكنهم الجامعي بطريقة مهينة والإلقاء بهم خارج الجامعة وحرمها، كما أن رئيسة جامعة كولومبيا ستخضع للتحقيق الذي خضعت له رئيسة جامعة هارفارد وبنسلفانيا وأُجبرتا بعدها على تقديم استقالتهما. وفي جامعة كاليفورنيا الجنوبية تمّ منع أفضل طالبة متفوقة في الجامعة «أسما تبسم» من إلقاء خطاب التخرج لتأييدها لفلسطين على منصات التواصل الاجتماعي.
وهذا غيض من فيض من القرارات المخابراتية القمعية التي تذكّرنا بأنظمة استبدادية عريقة كنظام ستالين وبول بوت وغيرهم من الطغاة، ففي الجامعات الغربية تكمّ أجهزة المخابرات الأفواه وتمنع حرية التعبير وتُدخل الغرب في مرحلة جديدة من الاضطهاد الفكري والذي علّه كان موجوداً دائماً ولكن الدعاية المكثفة لهذه الأنظمة قد خلقت غشاوة على أعين الناس، فعملت دماء شهداء غزة على إزالتها وتعرية الغرب المتصهين على حقيقته والذي اعتمد على النفاق وتشويه الحقائق والكذب المفضوح لتنفيذ سياساته الإجرامية في العالم.
ولكن بعد استخدام الولايات المتحدة الصهيونية الفيتو الإجرامي لمنع وقف العدوان على غزة ولمنع تبوؤ فلسطين المقعد الذي تستحق في الأمم المتحدة وبعد كل مندرجات نتائج الإبادة في غزة، هل يمكن لأحد أن يستمر بقبول زيف سرديات الغرب ونفاقه؟ لقد تداعى أعضاء عصابة الدول الصهيونية السبع: بريطانيا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وإيطاليا واليابان وكندا بعد الرد الإيراني على الكيان الصهيوني واجتمعوا في إيطاليا ليدينوا إيران ولكنهم لم يدينوا قتل أكثر من 34 ألف طفل وامرأة في غزة وهدم البيوت على رؤوسهم وهم نيام وتدمير المنازل والمدن والمنشآت والمشافي الفلسطينية والمدارس والكنائس والمساجد والجامعات في غزة والضفة بل دعوا «كلّ الأطراف» إلى «خفض التصعيد» وعبروا عن موقفهم ضد عملية «كبيرة» في رفح، ومن هي الأطراف؟ أليس هو طرف واحد معتدٍ ومرتكب أبشع جرائم الإبادة في العصر الحديث، والطرف الثاني هم المدنيون العزّل؟ وما هو تعريف العملية: «الكبيرة» ومتى تعتبر كبيرة إذا كان قتل وتهجير وتجويع وإبادة مليونين من المدنيين الفلسطينيين ليس كبيراً؟
لقد سقط قناع النفاق الغربي عن تبني القيم الحضارية الإنسانية مرة وإلى الأبد وبرهن الغرب الاستعماري المتصهين بما لا يقبل التساؤل أو الشك أن سردياته مجافية للواقع ومنافقة أشدّ النفاق وأنه لا يملك حضارة ولا نظماً ولا قوانين أخلاقية بل هو ممعن في تدمير حضارتنا التي أنتجت العلم والطب والموسيقا والأبجدية والتجارة والفنون والقانون ومنطقتنا التي هي أرض الديانات السماوية والعيش المشترك.
إن الغرب وأداته الصهيونية العالمية ومخابراتهم الستالينية وإعلامهم الموحد يشكل خطراً محدقاً بمنطقتنا وبشعوبها وبالعالم برمّته ولكن للأسف فإن حكام عصابة السبع يتنادون ويحضرون فوراً للتعاون على الإثم والعدوان وسفك الدماء وكمّ الأفواه ولا نشهد بالمقابل من يتعاونون على البرّ والتقوى وإيقاف الحروب والتنسيق الحقيقي لتشكيل قوة عالمية تدرأ الخطر الصهيوني الإرهابي الذي يهدد البشرية برمّتها.
إن فلسطين تقدّم فرصة للعارفين والمؤمنين بخلاص البشرية من هذا الخطر الصهيوني الإرهابي المحدق بأجيال أبنائنا وأحفادنا كلها جميعاً والعمل اليوم والتنسيق الجاد والحقيقي ضد الخطر الصهيوني الغربي هو مسؤولية إنسانية في أعلى أولويات البشر على هذا الكوكب. العالم لم يتغيّر ولكن حقيقة الغرب انكشفت وعلينا نحن أن نغيّر هذا العالم بما يليق بحضاراتنا وإنسانيتنا وأخلاقنا.