عقب انتخابه ليكون رئيساً لروسيا للمرة الخامسة على التوالي، أطاح “فلاديمير بوتين” بوزير الدفاع وحليفه المقرب “سيرجي شويجو”، ليُعيِّن بدلاً منه خبيراً اقتصادياً مدنياً. وقد أعلن الكرملين، ، في 12 مايو 2024، في خطوة وصفت بالمفاجئة، أن “أندريه بيلوسوف” نائب رئيس الوزراء ذا الخلفية الاقتصادية، سيحل محل “شويجو”؛ وذلك بسبب حاجة الوزارة إلى الابتكار والتغيير، وهو الإعلان الذي أثار العديد من التساؤلات والتكهنات حول رؤية “بوتين” لمستقبل العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
دلالات الإقالة
أعلن الكرملين عن عزل وزير الدفاع “شويجو”، الذي يتمتع بعلاقات وثيقة مع الرئيس الروسي، وهو الأمر الذي استدعى مجموعة من الدلالات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
1– تحميل “شويجو” مسؤولية تأخير النصر في أوكرانيا: افترض الكثير من الروس، أن العملية العسكرية التي تقودها موسكو في أوكرانيا ستستمر لبضعة أسابيع على الأكثر، غير أنها الآن تدخل عامها الثالث، وقد ابتُليت بنَكَسَات عسكرية وخسائر كبيرة في القوة البشرية والعتاد، وهو الأمر الذي دفع العديد من الأصوات الروسية الداخلية إلى التشكيك في قدرة “شويجو” على إدارة المعركة. وقد جاء على رأس منتقدي وزير الدفاع السابق، رئيس مجموعة “فاجنر” السابق “بريجوجين”، الذي اتهم وزير الدفاع بتضليل الرئيس “بوتين” والشعب الروسي، عبر مشاركته معلومات مغلوطة تُضخِّم حجم الخطر القادم من حلف الناتو والولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما دفع موسكو إلى الانخراط في حرب لا نهاية لها.
2– ملاحقة شبهات الفساد وزارة الدفاع: تولى “شويجو” قيادة وزارة الدفاع عام 2012، بعد أن خدم في منصب وزير خدمات الطوارئ، وقد نمت شعبيته في عام 2014 بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم، وهي العملية التي كان له الفضل في تنسيقها. وعلى الرغم من ذلك، تعرض الوزير لانتقادات شديدة، بفعل الخسائر الروسية في بعض ميادين المعركة بأوكرانيا منذ فبراير 2022، فضلاً عن عدم قدرته على استئصال الفساد الذي ما زال مستشرياً في الجيش؛ فقد بدا موقف “شويجو” ضعيفاً في الشهور الأخيرة، وخاصةً بعدما ألقت أجهزة الأمن القبض على نائبه “تيمور إيفانوف”، في شهر أبريل 2024، على خلفية اتهامه بالفساد، واتهامه بقبول رشوة.
3– حاجة “بوتين” لطرح أسماء جديدة في الحكومة: اقترح الرئيس الروسي أن يتولى “شويجو” منصب رئيس مجلس الأمن الروسي، إلا أن بعض المراقبين يرون هذه الخطوة بمنزلة خفض لرتبته، ومحاولة من جانب “بوتين” للسماح لحليفة القديم بحفظ ماء الوجه. ويأتي هذا التعديل مع بدء “بوتين” فترة ولايته الرئاسية الخامسة، واستمرار الحرب مع أوكرانيا. وعلى الرغم من دخول الحرب عامها الثالث، وعدم قدرة موسكو على حسم المعركة نهائياً لصالحها، فإن روسيا تحقق تقدماً حقيقياً على الأرض في أوكرانيا؛ فعلى سبيل المثال، شهدت الأيام الماضية انسحاب بعض الوحدات الأوكرانية من منطقة “خاركيف”؛ ما أدى إلى تسليم المزيد من الأراضي للقوات الروسية عبر المستوطنات الأقل تحصيناً، فيما تسمى المنطقة الرمادية المتنازع عليها على الحدود الروسية الأوكرانية.
وتشير المعطيات الراهنة إلى اقتراب موسكو من تحقيق أهدافها الاستراتيجية في حربها بأوكرانيا، المتمثلة بصورة أساسية في السيطرة على الشرق الأوكراني، وأهم مواقعها على البحر الأسود، مع السيطرة على أجزاء من العمق الأوكراني، وهي الأجزاء يمكن استغلالها كخطوط عازلة، عند التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار مستقبلاً، بأقل تكلفة اقتصادية ممكنة؛ لذا فإن من الضروري اللجوء إلى أسماء جديدة لإدارة العملية العسكرية من منظور اقتصادي وسياسي، أكثر من الاعتماد على المنظور العسكري فقط.
4– تأكيد الحاجة إلى الابتكار والتطوير الدفاعي: برر المتحدث باسم الكرملين “ديمتري بيسكوف” التغيير الجديد بالقول إن الفائز في ساحة المعركة هو الأكثر انفتاحاً على الابتكار، ومن ثم فإن من الطبيعي أن يقرر الرئيس تعيين وزير مدني في رئاسة وزارة الدفاع الروسية. ويتفق المتخصصون في الشأن الروسي مع هذه التصريحات؛ حيث أشاروا إلى أن الرئيس الروسي يسعى إلى مواءمة الاقتصاد الروسي مع المجهود الحربي الذي تقوم به روسيا في عدد من الجبهات، وعلى رأسها الجبهة الأوكرانية. وينعكس ذلك من خلال القرار بتعيين خبير اقتصادي، مسؤولاً عن وزارة الدفاع لتنظيم مسار الأموال الضخمة التي تنفقها السلطات الروسية في الحرب ضد أوكرانيا، وحاجة روسيا إلى تعزيز كفاءة قواتها المسلحة. ويُعَد “بيلوسوف” المرشح الأنسب للقيام بهذه المهمة، خاصةً أنه قد أشرف فيما سبق على تنظيم نفقات إنتاج الطائرات المسيرة الروسية التي استُخدِم جزء كبير منها في العمليات العسكرية الروسية بأوكرانيا.
الوزير الجديد
يُنظَر إلى الفترة الرئاسية الخامسة للرئيس “بوتين” باعتبارها مرحلة تثبيت أسس الدولة والاقتصاد الروسي، وضمان تنمية واستدامة إرث “بوتين” في الدولة الروسية الحديثة. ولضمان تحقيق هذه الغاية، تبدو ثمة ضرورة لتحقيق النصر في أوكرانيا، وبناء اقتصاد روسي قوي وقادر على التعامل مع الصدمات الداخلية والخارجية. ويُعد “بيلوسوف” أحد رجال “بوتين” الحاليين الذين سيُوكَل إليهم تحقيق هذه الغاية. وبوجه عام، يرتبط اختيار “بيلوسوف” بعدد من الدوافع الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
1– جمع “بيلوسوف” بين الخبرة الاقتصادية الأكاديمية والعملية: حصل وزير الدفاع الجديد على شهادة في الاقتصاد من جامعة موسكو عام 1981، وواصل مسيرته المهنية في الأوساط الأكاديمية لعدة سنوات في أواخر التسعينيات. وفي عام 2000، أسس “بيلوسوف” مركز تحليل الاقتصاد الكلي والتنبؤ القصير الأجل، إلا أنه سرعان ما انتقل للعمل لصالح الحكومة مستشاراً لرئيس الوزراء؛ وذلك بالتزامن مع سعيه للحصول على درجة الدكتوراه، ثم عُيِّن وزيراً للتنمية الاقتصادية عام 2012، وأصبح في العام التالي مساعداً للرئيس “بوتين” للشؤون الاقتصادية.
2– الدعم الواسع لسياسات الرئيس “بوتين”: يُصنَّف “بيلوسوف” باعتباره واحداً من أهم الداعمين لسياسات الرئيس “بوتين”؛ ففي عام 2020، عُيِّن نائباً أولاً لرئيس الوزراء، وقد اكتسب منذ ذلك الحين سمعة باعتباره من الموالين لسياسات الرئيس “بوتين” التوسعية؛ حيث ورد أنه كان العضو الوحيد في المجموعة الاقتصادية للرئيس الذي دعم ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، كما يُنسَب إليه الفضل في ابتكار العديد من السياسات الاقتصادية التي اتبعها الكرملين في السنوات الأخيرة، وكان يُشار إليه على أنه أحد العوامل الرئيسية وراء مجموعة من الخطط الطامحة التي اعتمدها “بوتين” عندما بدأ ولايته الرئاسية الرابعة في عام 2018، وكان أيضاً داعماً رئيسياً لزيادة ضريبة القيمة المضافة من 18 إلى 20% في عام 2019.
3– ضمان عدم تورط “بيلوسوف” في أزمات وزارة الدفاع: لا يمكن إغفال أن اختيار مرشح لوزارة الدفاع من خارج الوزارة من طراز “بيلوسوف”، يعكس محاولة الرئيس بوتين ضمان أن يكون المرشح الجديد غير متورط في أزمات وزارة الدفاع، وخاصةً اتهامات الفساد التي لاحقت الوزارة، كما أنه يضمن ألا يكون لدى الوزير الجديد ارتباطات ببعض المجموعات وشبكات المصالح داخل الوزارة، وهو الأمر الذي يحقق لبوتين بعض المكاسب، وفي مقدمتها العمل على تنفيذ رؤيته لوزارة الدفاع، والتكريس لصورته كرئيس يعمل على إصلاح وزارة الدفاع ومعالجة الفساد داخلها.
4– خدمة تطلعات “بوتين” لبناء اقتصادٍ تُحرِّكه الصناعات العسكرية: قال المتحدث باسم الكرملين “ديمتري بيسكوف” إن التغيير يعد منطقياً؛ وذلك في ظل اقتراب روسيا من وضع الاتحاد السوفييتي خلال منتصف الثمانينيات حيث تتزايد ميزانية الدفاع بصورة كبيرة. وتسعى موسكو إلى ضمان توافق الإنفاق الدفاعي مع الاقتصاد العام للبلاد، ودمجه بشكل أفضل لتلبية متطلبات التنمية الاقتصادية؛ ولهذا السبب يريد الرئيس الروسي خبيراً اقتصادياً مدنياً في وظيفة وزارة الدفاع.
ويرى المحللون أن تعيين أحد الاقتصاديين في الوزارة يعني أن “بوتين” يخطط لكسب الحرب من بوابة المصانع الحربية، وأسواق الدفاع الدولية؛ فقد عمل الاقتصاديون الروس على ضمان الاستقرار الاقتصادي والنمو؛ وذلك على الرغم من العقوبات الحالية المفروضة على روسيا، وعلى الرغم من إخفاقات المؤسسة العسكرية أيضاً منذ بداية الهجوم الروسي. وتُعَد الاستراتيجية الفائزة في هذه الحالة هي الضغط البطيء على أوكرانيا من خلال القوة المتفوقة للمجمع الصناعي العسكري الروسي والاقتصاد ككل.
خلاصة القول: على الرغم من وجود شائعات منذ فترة طويلة عن وجود تعديل وزاري مرتقب في روسيا، فإن قليلين كانوا يتوقعون أن يقع اختيار الزعيم الروسي على رجل مدني لا يتمتع بأي خبرة عسكرية، وهو ما يعكس أولوية الاقتصاد لدى الرئيس “بوتين” في الوقت الحالي، والعمل على ترشيد قرارات وزارة الدفاع، والعمل في الوقت ذاته على تطوير الصناعات العسكرية الروسية، وتنظيم مسار الأموال الضخمة التي تنفقها السلطات الروسية في الحرب ضد أوكرانيا، وحاجة روسيا إلى تعزيز كفاءة قواتها المسلحة.