تُعَدّ العودة إلى الجامعة العربية وفشل رهاناتها على تحقيق مكاسب واضحة للداخل السوري، بمنزلة درس جديد لسوريا والسوريين جميعاً، وضرورة التأكيد أن الكارثة السورية لا تتعلق بالحرب الداخلية.
انتهت القمة العربية الأخيرة، التي انعقدت في البحرين، كما هو متوقع في مسارات الجامعة العربية، التي اعتمدت في بياناتها على استنساخها السنوي مع بعض التعديلات الطارئة، على نحو لا يمس جوهر اتفاقات الحد الأدنى، منعاً للاختلاف فيما بين الدول العربية المتباينة في الاصطفافات الإقليمية والدولية بين الشرق والغرب، على رغم أن العدد الأكبر منها أصبح ضمن سياق المصالح الغربية.
شاركت سوريا للمرة الثانية في اجتماعاتها بعد استبعادها أحد عشر عاماً عن الجامعة العربية، التي كانت أول من ساهم في تأسيسها الأولي عام 1944. ولم يقتصر الأمر على الاستبعاد، بل كانت الجامعة العربية طرفاً أساسياً في الحرب التي اندلعت على أغلبية الجغرافيا السورية، ومع ذلك كان لا بد من تجربة طيّ صفحة الماضي السلبي والذهاب نحو تجربة جديدة من العلاقات العربية الضرورية للجميع، وفق مصالح الحد الأدنى التي تعبر عنها نسبة التبادل التجاري المتدنية فيما بينها، والتي لا تتجاوز 7% من مجمل الناتج المحلي العام، الذي تجاوز 3 ترليونات دولار.
كان موقف دمشق واضحاً تجاه القمة الثانية بعد الاستبعاد على العكس من الآمال المستفيضة من قمة العودة الأولى، فكان الاستنكاف عن إلقاء كلمة سوريا تعبيراً واضحاً عن موقف مبطن عن المستوى المتدني للآمال المعقودة على نتائج المؤتمر.
فثلاث دقائق لكل كلمة لا تكفي للحديث عن أي تصور جديد يخدم العرب في محنتهم المستمرة بفقدان السيادة، كما أن مضي عام كامل على العودة لم ينعكس بشيء إيجابي على الداخل السوري، الذي تتعمق أزماته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
والأمر الثالث هو معرفة مضمون البيان المسبق الذي تعاطى مع فلسطين على أنها قضية ثانوية، وهذا ما حدث من عدم تعرض البيان الصادر عن القمة للحدث الأكبر في تاريخ المنطقة منذ مئة عام بعد عملية “طوفان الأقصى”، وما أفرزته حتى الآن من تداعيات، وعدم التطرق إلى حرب الإبادة المستمرة في غزة من جانب النظام الغربي بجيشه الصهيوني.
على الرغم من الدور السلبي العام للجامعة العربية منذ تأسيسها حتى الآن، فإن العودة إليها تُعَدّ ضرورية لسوريا. فهي المنظمة الوحيدة الجامعة للدول العربية، والحضور فيها يمكّن سوريا وبعض الدول العربية الأخرى، مثل الجزائر وعُمان، من أن تؤدي دوراً في الحد من شدة الخسائر المتبعة في السياسات البينية والإقليمية والدولية، إلى حين الوصول إلى لحظة تاريخيّة في سياق التغيرات العالمية، تتيح عملية الإصلاح الجذري في بنيتها الداخلية. وهذا الأمر مرتبط باستعادة مصر ثقلها التاريخي وشفاء كل من سوريا والعراق.
حاولت هذه القمة أن توحي في ابتعادها عن الزلزال العالمي لعملية “طوفان الأقصى” التي وصلت ارتداداته إلى قلب الولايات المتحدة، وهي لم تتوقف حتى الآن، بل تستمر بصورة متصاعدة لتمتد إلى طلاب الجامعات وغيرهم في معظم الدول الفاعلة في النظام الغربي. وعلى الرغم من محاولات تهميش أهمية الحدث الكبير، فإن الحدث من الناحية الفعلية كان مخيماً بظلاله على المجتمعين، الذين يتابعون بقلق وصمت القدرات المتصاعدة لقوى المقاومة في ساحات متعددة من غربي آسيا، في مقابل عجز النظام الغربي المُراهَن عليه، وعدم قدرته على تحقيق أي من الأهداف التي وضعها على ألسنة قادة الكيان الصهيوني بعد ما يقارب ثمانية أشهر من المواجهة المستمرة.
تُعَدّ العودة إلى الجامعة العربية وفشل رهاناتها على تحقيق مكاسب واضحة للداخل السوري، بمنزلة درس جديد لسوريا والسوريين جميعاً، وضرورة التأكيد أن الكارثة السورية لا تتعلق بالحرب الداخلية.
فهي في الأساس ساحة أساسية من الصراع، إقليمياً ودولياً، ونهاياتها لا يمكن أن تتحقق قريباً قبل أن يصل الصراع الدولي إلى لحظة الإقرار بواقع دولي جديد، من جانب الولايات المتحدة، ينجم عنه نظام دولي متعدد الأقطاب والسياسات والثقافات وفقاً للتعبير الصيني، ينعكس على إقليم غربي آسيا بالاستقرار المنشود من كل أطرافه الأصيلة المتناقضة.
أمام هذه النتيجة المؤجلة أعواماً غير قابلة للتحديد بعد، نتيجةً لاستمرار قدرة الولايات المتحدة على أذية خصومها الدوليين والإقليميين بالحروب والعقوبات، على رغم استمرار حالة الانكفاء والتراجع لديها، وهذا بدوره يضع السوريين أمام مزيد من التحديات والتهديدات، وخصوصاً من تبقى داخل سوريا بأقسامها المجزأة من الناحية الواقعية.
وهنا يبرز دور دمشق في تحديد مستقبل سوريا بحكم استمرار شرعيتها الدولية وسيطرتها على 65% من مساحة الجغرافيا السورية، ودورها المهم حتى الآن في تحديد طبيعة النظام الإقليمي الذي سينشأ في إثر نهاية الصراع، دولياً وإقليمياً.
الوضع الداخلي السوري الضاغط بشدة لا يتيح رفاهية الزمن بعد فشل رهانات الانفتاح على دول الجامعة العربية بنتائجه البسيطة والبطيئة، كما أن الاستمرار في المسارات الاقتصادية والسياسية الداخلية على ما هي عليه حتى الآن لا يشكل حلاً، بل يساهم في مزيد من الضغوط المضافة إلى العقوبات الخارجية القاسية والحرمان من الموارد الأساسية للطاقة والغذاء، وكل هذه العوامل تدفع إلى العودة إلى المربع الأول من الكارثة السورية، وبدء عملية الإصلاح الجذري المتسارع والواسع في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية بدايةً.
ولا تتوقف ضرورة الإصلاح الجذري على حل مشكلة الضغوط الاقتصادية الهائلة على سوريّي الداخل، بل تتجاوز ذلك.
فالسوريون يحتاجون إلى نموذج مستقطِب لهم يشكل دافعاً لهم إلى العودة إلى بلدهم، إن كانوا في المناطق خارج سيطرة دمشق، أو في دول اللجوء في الجوار، أو في دول الاغتراب التي تعيش تهديدات التراجع الاقتصادي بعد أزمتي جائحة كورونا 2019 والحرب بين روسيا وحلف الناتو في أوكرانيا. والنموذج المستقطب الجديد هو الكفيل بتذويب حدة الانقسام السوري.
رهانات الداخل الجديدة المطلوبة يمكنها أن تثمر مع رهانات ما بذلته سوريا من جهود مستمرة خلال العقود الماضية في تعزيز دورها الإقليمي، عبر تبنيها لقوى المقاومة، إن كان كمقرّ لبعضها، أو دعمها عسكرياً، أو تسهيل نقل السلاح إليها.
وهي مستمرة في هذه السياسة حتى الآن، وهي بالتأكيد أحد الأطراف القليلة التي ستجني ثمار نتائج عملية “طوفان الأقصى”. وهذا حقها الطبيعي، لكن هذه الثمار لا يمكنها أن تكتمل إلا بتوافق رهانات الداخل الجديدة مع رهانات الموقف الخارجي المقاوم. وغير ذلك سيجعل سوريا في دوامة التهديدات المستمرة بلا راحة للسوريين.
الكاتب السوري أحمد الدرزي