يبدو أن قوات الاحتلال الإسرائيلي لم تجد من وسيلة للحد من هول الهزيمة التي منيت بها في شمال قطاع غزة ووسطه، ومن العملية البطولية التي نفذتها المقاومة في مخيم جباليا شمال غزة، سوى الانتقام من المدنيين العزل، الذين اتخذوا من خيم وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «أونروا» مكاناً آمناً لهم، أو هكذا ظنوا لوهلة، وأن الرايات الزرق الأممية كفيلة بأن تقيهم جرائم الاحتلال وقذائفه المجنونة، إلا أن الأماني أمر والواقع أمر آخر، حيث لا يقيم قادة الكيان وزناً لأي شرعية أممية أو قرار دولي.
ثمة قراءات متعددة لإقدام الاحتلال الإسرائيلي على جريمته باستهداف خيام نازحين في منطقة تل السلطان شمال غرب رفح، ليبرز منها سببان أساسيان، الأول، أن قوات الاحتلال وجدت نفسها في المربع الأول ذاته والذي بدأت منه قبل ما يقارب ثمانية أشهر في بداية عدوانها على القطاع، وهي التي زعمت مراراً وتكراراً أنها سيطرت على الأغلبية العظمى من أراضي القطاع بعد أن حولته إلى ركام وأثر بعد عين، لتعود مجدداً إلى عمليات القصف والإبادة في أحياء الزيتون والشجاعيّة، ومخيّم جباليا، وبيت حانون، وفي كل مرة تُمنى تلك القوات بهزائم أكبر وأكثر إيلاماً من سابقتها، كل ذلك دفع بها إلى ضرب أهداف سهلة المنال خارج العمليات العسكرية، لتكون تلك الجريمة في رفح، إحدى خطوات رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في طريقه الساعي إلى إفشال بشكل مسبق أي إمكانية للوصول إلى اتفاق ينهي العدوان.
في السبب الثاني يبرز الدور الأميركي، حيث إنه لا يمكن لنتنياهو المطلوب من العدالة الدولية الإقدام على أي خطوة بمثل تلك الجريمة، لولا يقينه بأن غطاء وضوءاً أميركياً أخضر يمكّنانه من الإقدام على ذلك، خاصة أن نتنياهو من دون دعم الإدارة الأميركية أصغر من أن يتحدى القانون الدولي والمجتمع الدولي والمحاكم الدولية وزعماء العالم، بل إنه اتكأ في تمرده على الشرعية الدولية، على قيام الإدارة الأميركية بشن حرب شعواء ضد «الجنائية الدولية» عقب قرارها باعتقال نتنياهو وزير حربه يوآف غالانت، بتهم ارتكاب جرائم تشمل التجويع والقتل العمد والإبادة، حيث أعلن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أنه سيعمل مع المشرعين الأميركيين لبحث إمكانية فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، الأمر الذي شكل ضوءاً أخضر لقادة الكيان بالتمرد على الشرعية الدولية، ومواصلة حرب الإبادة في القطاع، وشجع رئيس الموساد السابق يوسي كوهين على تهديد المدعية العامة السابقة في المحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا، وحذرها من التحقيق ضد إسرائيل بتهمة جرائم حرب، حسب صحيفة «الغارديان» البريطانية.
في تداعيات عملية المقاومة في جباليا، ورد الاحتلال الإجرامي، هناك الكثير من الحقائق والمفرزات، فعملية جباليا جاءت بعد أكثر من 230 يوماً على بدء العدوان، لتؤكد أن المقاومة ما زالت بالقدرة والإمكانات ذاتها على مواصلة المقاومة ومواجهة الاحتلال، بل أخذه إلى حرب استنزاف في شمال فلسطين المحتلة وفي جنوبها، تؤدي في نهاية المطاف إلى انقسام في الداخل الصهيوني وانهيار الكيان.
سياسة نتنياهو وفشله في تحقيق نصر، أو الوصول إلى ملامح إنجاز، دفع معارضيه في الداخل خاصة زعماء أحزاب بالمعارضة على الاتفاق على الاجتماع اليوم الأربعاء، لبحث سبل إسقاط الحكومة الحالية وتشكيل أخرى، وذلك عقب قيام زعيم المعارضة يائير لابيد بمهاجمة نتنياهو وبقوة، قائلاً: «لماذا لا تزال رئيساً للوزراء؟ كيف لا تصعد إلى هذه المنصة الآن وتطلب الصفح من الشعب وتعود إلى منزلك؟ أنت لم تقم بدورك، لقد فشلت فشلاً ذريعاً، أنت رئيس وزراء غير شرعي وهذه الحكومة غير شرعية»! ليسير على الطريق ذاته المسؤول الأمني الإسرائيلي يورام حيمو بقوله: إن «النهج الذي تدار به الحرب لم يعد قادراً على تحقيق أهدافها، كما أن مواصلة الحرب بالنهج الحالي لن تكون مفيدة، وقد تؤدي إلى مزيد من التآكل في الإنجازات من الناحية الإستراتيجية».
من المؤكد أن أوضاع الكيان الإسرائيلي سواء على الصعيد الداخلي، أم في جبهات العدوان شمالاً وجنوباً، في أسوأ حالاتها، وبأن الأمور ذاهبة نحو خريف من الانكسارات والهزائم، خاصة في ضوء تطوير المقاومة لتكتيكاتها والحفاظ على إستراتيجيتها في مواجهة الجيش الإسرائيلي، الذي يبدو أنه بات أمام حائط مسدود من تطوير عملياته، وإفلاس بتحقيق أهدافه في القضاء على المقاومة وإعادة جنوده الأسرى، ليجد نفسه في نهاية سرداب مغلق، خالي الوفاض، وجلّ همه كيفية العودة من حيث أتى.
الوطن السورية .