تخلخل المسافة ما بين البيت الأول وجحيم المنافي الجديدة للسكنى، أضفى على معنى الفقدان بعداً مختلفاً، وذلك بمحاولة ترميم الذاكرة بما ينقص المسكن الطارئ: صورة بزجاج مكسور، مفتاح البيت، ضوضاء الشارع
لا تحيل مفردة “البيت” اليوم إلى المعنى نفسه، لفرط ما أصابها من رضوض وزلازل وانهيارات، وذلك بتأثير الحروب والنزوحات القسرية، واللجوء إلى أماكن أخرى. نأى بشر بالجملة عن البيت الأول بعد أن أضحى ذكرى بعيدة مثل صورة تذكارية معلّقة على حائط مائل، وتجاوزت عبارة “الوقوف على الأطلال” أغراض الشاعر الجاهلي، لتأخذ مكانها في المعجم الراهن بتنويعات أكثر فتكاً، عن طريق صاروخ موجّه بإمكانه اختراق غرفة النوم أو إبادة حديقة المنزل وتحويل صفّ من الأشجار الباسقة إلى مقبرة، أو الموت تحت الأنقاض، وإذا بدفن الموتى في قبور لائقة يبدو كمعجزة، فالقبر بيت أيضاً!
كان غاستون باشلار في كتابه المُلهم “جماليات المكان”، قد اختزل كل ما يتعلّق بحميمية البيت مستبعداً فكرة “المكان المعادي” لمصلحة” بيت الطفولة”، في تجوال يبدأ من القبو إلى العليّة مروراً بالخزائن والأدراج والصناديق والاعشاش والقواقع. لكننا تحت وطأة الصور الكابوسية المتراكمة لأحوال النزوح افتقدنا هناءة البيت ومعنى الكون الأول، والحجرة الأولى.
هكذا اختزل الأخطل ذكريات البيت الأول قائلاً:
حَيِّ المنازلَ بينَ السفحِ والرحَبِ
لم يبقَ غيرَ رسومِ النارِ والحطب
وإذا ما كان حميمياً وأليفاً ينتهي إلى موقدٍ مهجور في صحراء لا نهائية. وسيستعيد محمود درويش أغراض الشاعر الطللي من موقعٍ آخر، معوّلاً على جمالية الطريق إلى البيت لا البيت نفسه. فما كان مقيماً في الذاكرة لا يشبه ما آل إليه ذلك البيت/الحلم: “عندما كنت خارج الوطن، كنت أعتقد أن الطريق سيؤدي إلى البيت، وأن البيت أجمل من الطريق إلى البيت. ولكن عندما عدت إلى ما يُسمى البيت، وهو ليس بيتاً حقيقياً، غيّرت هذا القول وقلت: ما زال الطريق إلى البيت أجمل من البيت لأن الحلم ما زال أكثر جمالاً وصفاءً من الواقع الذي أسفر عنه هذا الحلم. الحلم يتيم الآن. لقد عدت إلى القول بأولية الطريق على البيت”.
ويضيف درويش مؤكداً “علاقتي القوية بالبيت نمت في المنفى أو في الشتات. عندما تكون في بيتك لا تمجّد البيت ولا تشعر بأهميته وحميميته، ولكن عندما تُحرم من البيت يتحوّل إلى صبابة وإلى مشتهى، وكأنه هو الغاية القصوى من الرحلة كلها”.
تخلخل المسافة إذاً، ما بين البيت الأول وجحيم المنافي الجديدة للسكنى، أضفى على معنى الفقدان بعداً مختلفاً، وذلك بمحاولة ترميم الذاكرة بما ينقص المسكن الطارئ: صورة بزجاج مكسور، مفتاح البيت، ضوضاء الشارع، نبتة صبّار عند إفريز النافذة جلبتها على عجل لحظة المغادرة، اندحار اللغة الأصلية في المنفى، اللغة التي كانت بيتاً.
يقول أدريان ن. برافي، الذي اضطر للهجرة من الأرجنتين إلى إيطاليا: “لقد أبحرتُ من لغةٍ، ومن دون إرادتي رسوتُ على شاطئ لغةٍ أخرى”، وهو بذلك يفسّر معنى الهجرة اللغوية والهجنة الثقافية، والنزوح القسري أو الاختياري بعيداً عن اللغة الأم.
هكذا وجد برافي نفسه عالقاً بين لغتين. يفكّر بالأولى، ويكتب بالثانية، من دون أن تفارقه ذكريات طفولته التي تباغته بعناد مثل موكبٍ غامض. كانت آخر ذكرياته في مدينة سان فرناندو، تتعلق بمنزل قديم متاخم للنهر الذي كان يفيض أحياناً فيغمر المنزل، وكانت أمه تضعه فوق طاولة أثناء انهماكها في صدّ المياه: “إذا كان عليّ اليوم، أن أقول ما هو بيتي الحقيقي، فإنني أودُّ أن أقول إنّه تلك الطاولة هناك”.
أظنّ بأن لكلٍ منّا تلك الطاولة التي هجرها لسببٍ ما، الطاولة التي أنقذتنا من الغرق لحظة الفيضان، وظلت تطارد ذكرياتنا في البيوت أو المدن التي حللنا بها لاحقاً. سنجد نموذجاً مثالياً للاقتلاع من البيت الأول نحو بيوت ومدنٍ أخرى لدى إدوارد سعيد، الذي عمل على تفكيك معنى المنفى القسري بحذاقة استثنائية. ففي مذكراته “خارج المكان” اشتغل المفكر الفلسطيني على حفريات المكان الأول كتجربة قاسية في الانقطاع عن “مناظر الطفولة”، و”استعارة البيت والمنفى، والهُويّة واللا-هُويّة، وحميمية البيت مقابل الاغتراب”، والروابط المتينة بين دلالات البيت والهوية والوطن. يقول سعيد إن: “الأرض كلها فندق.. وبيتي القدس”.
عندما أنهى صاحب “تأملات حول المنفى” كتابة مذكراته تمكّن من زيارة بيته القديم في القدس للمرّة الأولى (1992)، البيت الذي غادرته عائلته قبل نكبة 1948 بعامٍ واحد، وفي زيارته الثانية له اكتفى بالوقوف خلف سور البيت. إذ لم يسمح المستوطنون بأن يدخل البيت.
يتذكر سعيد: “تذرّعوا بأسباب عاطفية كابحة جداً ومبهمة جداً لعرقلة دخولي إليه مرة ثانية، بل لمنعي عملياً من الدخول، ولو من أجل إلقاء نظرة خاطفة”. كأن المنفى هو من يعزّز صورة البيت الأصلي ويمنحه مسحة صوفية في استدعاء صور مجازية تعيد لصاحبها بعضاً من الطمأنينة المفتقدة لجهة الإقامة والعبور، أو المسكن والمأوى.
من جهته، ينتصر بروتولد بريخت إلى المكان الأول بقوله: “لأنّ الصوت يرنّ فيه أوضح، ولأنّ الأرض تتحمّل السير أكثر”.
كما وضع فلاسفة بالجملة مفردة البيت كمجاز فلسفي، وهو ما يشير إليه الباحث الفلسطيني رائف زريق بالقول: “سيطرت فكرة البيت بتجلّياتها المختلفة، أو العودة إلى البيت، باعتبارها توقاً مستمرّاً، وفكرةً ناظمة في تاريخ الفلسفة منذ نشأتها، بدءاً من الفلسفة اليونانيّة، مروراً بالفكر الدينيّ الذي اعتقد أنّ الوجود البشريّ على وجه الأرض عبارة عن رحلة شاقّة ومضنية، وأنّ البيت الحقيقيّ الوحيد يكون في الحياة الأخرى بعد الممات، حيث الراحة الأبديّة”.
أما جورج لوكاتش يعرّف الفلسفة بأنها “الحنين المستمرّ إلى البيت”، وتالياً فإن البيت يمثّل “نوعاً من المنطقة الآمنة التي تؤهّل المرء إلى أن يتعثّر ويقف على رجليه، المنطقة الآمنة الّتي تسمح له أن يخطئ من دون أن يقع في الهاوية، أن يتعلّم من خطئه وينهض مجدّداً، لأنّ جزءاً من الأنا موزّع في الآخرين، وفي الجماعة الّتي تمكّن المرء من أن يلمّ أشلاءه المتناثرة، ويصوغ نفسه من جديد”.
في هذا المقام، سنغادر عتبات البيوت، بثلاث وقفات طللية، الأولى بصوت أبي تمّام “كمْ منزلٍ في الأرضِ يألفُهُ الفتى/وحنينُهُ أبدًا لأولِ منزلِ”، ثم وقفة ثانية مع المتنبي “لكِ يا منازلُ في القلوبِ منازلُ/ أقفرْتِ أنتِ وهن منكِ أواهلُ”، ووقفة ثالثة بصحبة الوليد بن يزيد الذي يقول: “منازلُ لو مرتْ عليها جنازتي/لقالَ الصدى يا حامليّ انزلا بِيا”.