بعد أكثر من أربعة عقود من الصراع المسلح الذي أودى بحياة ما لا يقل عن 40 ألف شخص، أعلن حزب العمال الكردستاني (PKK)، في 12 مايو 2025، في خطوة وُصفت بالتاريخية، قراره بحل نفسه، وإلقاء السلاح، وإنهاء الكفاح المسلح ضد الدولة التركية. وقد جاء هذا القرار نتيجة مشاورات معمقة خلال المؤتمر الثاني عشر للحزب، الذي انعقد بين 5 و7 مايو 2025، وأوصى بـ”أولوية حل البنية التنظيمية للحزب وإنهاء كفاحه المسلح”. كما يأتي إعلان الحل استجابةً للدعوة التي أطلقها زعيم الحزب عبد الله أوجلان في 27 فبراير 2025، والتي طالب فيها بإنهاء المقاومة المسلحة ضد الدولة التركية، وإعلان حل الحزب.
ويعكس هذا التحول إدراك الحزب العميق للمتغيرات الإقليمية والدولية التي فرضت نفسها في المرحلة الأخيرة، وفي مقدمتها سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، الأمر الذي أضعف العمق الاستراتيجي للحزب في الشمال السوري. كما تزامن ذلك مع تصاعد التنسيق الأمني والعسكري بين بغداد وأنقرة في ملف مكافحة نشاطات الحزب، إلى جانب التوجُّه الأمريكي، بقيادة إدارة ترامب، نحو تقليص الوجود العسكري للولايات المتحدة في سوريا، حيث بدأت واشنطن فعلياً بسحب نصف قواتها، وسط ضغط أنقرة لتقديم الرئيس السوري أحمد الشرع كضامن لاستقرار البلاد.
دوافع مفسرة
يُمكن تفسير قرار الكردستاني بحل نفسه والتوقف عن الصراع مع تركيا في إطار عدد من العوامل الضاغطة، التي تؤثر على واقع الحزب وتشكل تهديدات متصاعدة عليه خلال المرحلة المقبلة، ويتمثل أبرزها فيما يلي:
1- تصاعد التنسيق الأمني بين أنقرة وبغداد ضد الحزب: أسهمت مجموعة من الضغوط المتصاعدة في دفع حزب العمال الكردستاني إلى تبني قرار الحل وإلقاء السلاح، من أبرزها التنسيق الأمني العراقي-التركي ضد الحزب في شمال العراق، والذي تجلى في إعلان الحكومة العراقية، في يوليو 2024، عن تصنيف حزب العمال الكردستاني كـ”منظمة محظورة”، إلى جانب توقيع تفاهمات أمنية واستخباراتية متقدمة بين بغداد وأنقرة لمواجهة الحزب. كما يُشار إلى أن زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى تركيا، في 8 مايو 2025، جاءت في جانب منها لتعزيز هذا التنسيق المشترك، ولا سيما عقب تنفيذ الحزب، في مطلع مايو 2025، هجومين استهدفا قوات البيشمركة في محافظة دهوك شمال العراق.
2- تعزيز أنقرة لنفوذها في الشمال السوري عقب سقوط “الأسد”: يرتبط قرار حل حزب العمال الكردستاني أيضاً بالارتدادات العكسية التي ترتبت على سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024، حيث أدى هذا التحول إلى اتساع دائرة التهديدات التركية ضد الحزب. وقد برز ذلك، على سبيل المثال، في دعوة تركيا، خلال المؤتمر الوزاري لدول جوار سوريا المنعقد في 9 فبراير 2025، إلى تأسيس تحالف إقليمي لمحاربة تنظيمي داعش وحزب العمال الكردستاني.
وبالتوازي، أسفرت التطورات السياسية والميدانية في سوريا، عقب صعود أحمد الشرع -المدعوم من أنقرة- إلى رأس السلطة، عن نجاح تركيا في إعادة تموضعها داخل الأراضي السورية وتعزيز نفوذها، الأمر الذي انعكس في تراجع القيود المفروضة على تحركات الجيش التركي والفصائل المسلحة الموالية له شمال سوريا، ولا سيما ضد مناطق الإدارة الذاتية الكردية.
3- تبدل المواقف الغربية تجاه المكون الكردي في الإقليم: أتى قرار حزب العمال الكردستاني بحل نفسه في سياق إدراكه للتحولات في البيئة الدولية المحيطة، ولا سيما تراجع الدعم الغربي للمكونات الكردية المسلحة في سوريا، وعلى رأسها قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، التي لطالما نُظر إليها كقوة حليفة في الحرب ضد تنظيم داعش. فقد بدأت إدارة ترامب، في أبريل 2025، إجراءات تقليص تواجدها العسكري في سوريا، حيث أغلقت 3 قواعد عسكرية في شمال وشرق البلاد، من ضمنها قاعدة حقل العمر النفطي وقاعدة كونيكو للغاز، مما أدى إلى خفض عدد القوات الأمريكية من نحو 2000 جندي إلى أقل من 1400، مع الإبقاء على وجود محدود في قاعدتين فقط، إحداهما في البادية السورية والأخرى في محافظة الحسكة.
وقد عكس هذا التحرك توجهاً أمريكياً واضحاً للانسحاب التدريجي من المشهد السوري، لصالح الاعتماد على ترتيبات محلية وإقليمية جديدة. كما رحبت واشنطن ودول أوروبية بارزة -منها فرنسا وألمانيا- باتفاق وقّعته “قسد” في مارس 2025 مع الحكومة السورية المؤقتة بقيادة أحمد الشرع، ينص على دمج مؤسساتها المدنية والعسكرية ضمن مؤسسات الدولة السورية، بما يشمل السيطرة على المعابر الحدودية وحقول النفط. وقد قُوبل الاتفاق بتأييد دولي باعتباره خطوة باتجاه إعادة توحيد سوريا واستيعاب المكونات الكردية داخل بنية الدولة، بدلاً من استمرار حالة الانفصال والتمرد.
وفي ضوء هذه التحولات، بدا واضحاً أن المظلة السياسية والعسكرية الغربية التي كانت توفر غطاءً غير مباشر لحزب العمال الكردستاني عبر الامتداد السوري بدأت في التلاشي، ما جعل خيار الحل أقرب إلى ضرورة استراتيجية بالنسبة للحزب.
4- انحسار الدعم الإيراني للحزب إثر تقلص نفوذ طهران الإقليمي: كشفت تقارير إعلامية، في يونيو 2024، عن تقديم إيران دعماً لحزب العمال الكردستاني، شمل تكنولوجيا الطائرات المسيّرة الانتحارية وصواريخ الدفاع الجوي، وذلك في إطار سعي طهران لتحقيق أهداف استراتيجية متعددة، أبرزها استخدام الحزب كورقة ضغط أمني على تركيا، بهدف إضعاف تحركات أنقرة التوسعية داخل العراق. كما يأتي هذا الدعم في سياق سياسة إيرانية أوسع تسعى إلى تعزيز نفوذها الإقليمي عبر تمويل ودعم جماعات مسلحة مصنفة إرهابية، مثل حزب العمال الكردستاني، لخلق أدوات تأثير في مناطق النزاع، واستخدامها كورقة ابتزاز في مواجهة خصومها الإقليميين، خاصةً تركيا.
إلا أنّ هذا الدعم شهد تراجعاً ملحوظاً في أعقاب سقوط نظام الأسد في سوريا، وما تبعه من تقلص كبير في النفوذ الإيراني داخلها. وقد ترافق ذلك مع نجاحات إسرائيلية في تحييد قدرات المليشيات الموالية لإيران، بالإضافة إلى عودة إدارة ترامب إلى سياسة “الضغوط القصوى” على طهران، لا سيما فيما يتعلق ببرنامجها النووي. كل ذلك شكل عناصر ضغط مركبة على قدرة إيران على الاستمرار في تقديم الدعم لحزب العمال الكردستاني، ما أسهم في تقليص هامش مناورة الحزب، وساهم في دفعه باتجاه خيار الحل وإنهاء الكفاح المسلح.
5- تعاظم الخسائر الميدانية لحزب العمال الكردستاني: ربما ارتبط قرار حل الكردستاني بتصاعد الخسائر المادية والبشرية التي أفرزتها العمليات العسكرية التركية طوال الأعوام الماضية على مناطق تركز الأكراد، وخاصةً في سوريا والعراق، وكذلك جنوب شرق تركيا. وتشير العديد من التحليلات إلى أن سلسلة الضربات التركية التي أطلقتها تركيا منذ منتصف العام 2021، تمكنت من ملاحقة وتتبع نشاطات الكردستاني في دول الإقليم، وتضييق الخناق على تحركاته، وتكبيده خسائر فادحة. وبحسب تقديرات تركية، فإن حزب العمال الكردستاني دخل خلال الآونة الأخيرة مرحلة استنزاف نتيجة نجاح القوات التركية في اختراق صفوفه وكشف تحركاته، وهو ما أدى إلى قتل المئات من مسلحي الحزب وتدمير مقار ومخازن سلاح ضخمة تابعة له، وانهيار واسع في بنيته التحتية العسكرية.
6- تحسين الصورة الذهنية للحزب في ظل فشل الكفاح المسلح: يبدو أن أحد دوافع حزب العمال الكردستاني نحو خيار الحل وإلقاء السلاح يتمثل في محاولة تطوير صورته الذهنية لدى الرأي العام الإقليمي، وذلك استناداً إلى اعتبارين أساسيين: أولهما، إدراك الحزب لفشل استراتيجية توظيف القوة الصلبة في تحقيق مكاسب جوهرية للقضية الكردية على المستوى الإقليمي، في ظل واقع سياسي وأمني لا يسمح بتوسيع النفوذ عبر السلاح. وثانيهما، تصاعد الكلفة المعنوية الناتجة عن العمليات المسلحة التي نفذها الحزب داخل الأراضي التركية، والتي ساهمت في ترسيخ صورته كـ”كيان إرهابي” في الوعي الجمعي التركي. وقد تجلى ذلك بشكل خاص في الهجوم الذي نفذه الحزب في 24 أكتوبر 2024 على مقر شركة “توساش” للصناعات الجوية والفضائية في العاصمة أنقرة، والذي أسفر عن مقتل 5 أشخاص.
تحديات التنفيذ
على الرغم من ترحيب تركيا وقطاع واسع من المكونات الكردية بقرار حل حزب العمال الكردستاني، وإلقاء السلاح، إلا أن ثمة تحديات يمكن أن تواجه التنفيذ الميداني لحل الحزب، ويمكن بيان ذلك على النحو التالي:
1- اشتراط أنقرة خطوات ميدانية لضمان جدية الحل: رغم ترحيب أنقرة الرسمي بقرار حزب العمال الكردستاني حل نفسه وإلقاء السلاح، واعتباره “فرصة تاريخية” لتحقيق تسوية شاملة وتدشين مرحلة جديدة خالية من الإرهاب، إلا أن هذا الترحيب جاء مشوباً بالحذر. ففي 12 مايو 2025، نشر متحدث باسم حزب العدالة والتنمية بياناً عبر منصات التواصل الاجتماعي، أكد فيه أن “عملية الحل ستخضع لمراقبة ميدانية دقيقة من قبل مؤسسات الدولة”، مشدداً على أن الأمر لا يقتصر على إلقاء السلاح فحسب.
وتطالب تركيا بإغلاق كافة فروع الحزب وامتداداته وهياكله غير القانونية داخل البلاد وخارجها. وكان وزير الخارجية التركي هاكان فيدان قد أكد أيضاً أن تسليم السلاح لا يُعد كافياً، بل يجب تفكيك البنية التحتية الاستخباراتية والتجارية للحزب، التي تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، وتغلغلت في عدة دول تحت غطاءات متعددة. واعتبر أن هذه الشبكات لا تقل خطورة عن الجناح العسكري للحزب، وأن تفكيكها شرط أساسي لضمان إنهاء التهديد بشكل كامل ومستدام.
2- غموض الآليات التنظيمية لحل الحزب بشكل عملي: رغم إعلان حزب العمال الكردستاني حل نفسه وإلقاء السلاح، لم يتضمن بيانه أي جدول زمني أو خطوات واضحة لتنفيذ القرار فعلياً، ما يثير تساؤلات حول جديته. إذ لم يحدد الحزب آلية تسليم السلاح أو مصير مقراته وهياكله في شمال العراق وشمال شرق سوريا، كما غابت الإشارات إلى الإجراءات القانونية والتنظيمية المطلوبة للحل. ويُرجّح أن يكون تنفيذ القرار مشروطاً بعملية سياسية يقودها عبد الله أوجلان، ما يفتح الباب لاحتمال استخدام إعلان الحل كورقة تفاوض، لا كالتزام نهائي.
3- تباين المواقف الكردية إزاء قرار حل الحزب: في حين رحب حزب “الديمقراطية والمساواة للشعوب” بالدعوة، واعتبرها فرصة تاريخية يجب عدم تفويتها، وصف نائبه “طيب تمل” القرار بأنه “تحول مهم للشعب الكردي وللمنطقة”، لكنه شدد على ضرورة أن يقابله تحول موازٍ في عقلية الدولة التركية، عبر تبني نموذج سياسي جديد. ومن جانبه، ثمن رئيس إقليم كردستان العراق نيجيرفان بارزاني القرار، واعتبره خطوة تعزز الأمن الإقليمي، وتفتح المجال أمام التعايش والاستقرار في تركيا والمنطقة.
في المقابل، يُرجح أن تبقى قوات سوريا الديمقراطية “قسد” خارج هذا التوجُّه، إذ سبق لها أن أعلنت في فبراير 2025 أن دعوة أوجلان تخص حزب العمال الكردستاني، ولا علاقة لها بها. ويعكس هذا التمايز تباين الحسابات بين المكونات الكردية في العراق وسوريا، ويطرح تحدياً فعلياً أمام وحدة الموقف الكردي تجاه إنهاء العمل المسلح.
4- تعمق أزمة عدم الثقة بين أنقرة والحزب: تمثل فجوة الثقة المتبادلة بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني أحد أبرز التحديات التي قد تُعطّل تنفيذ قرار حل الحزب. فرغم إعلان الحل، لا تزال تركيا تصنف الحزب كمنظمة إرهابية، وتتعامل مع قراره بحذر بالغ، مدفوعة بخبرة طويلة مع مبادرات سابقة لم تُستكمل أو أُفرغت من مضمونها. وفي المقابل، تستمر بعض القيادات داخل الكردستاني في التمسك بخطاب المقاومة المسلحة، معتبرةً أن الكفاح المسلح لا يزال أداة مشروعة لحماية “المشروع الكردي”، في ظل غياب ضمانات سياسية واضحة من الدولة التركية بشأن الحقوق الكردية.
تحولات مشروطة
وختاماً، يمكن القول إن قرار حل الكردستاني نفسه وإلقاء السلاح، قد يتمخض عنه جملة من التداعيات المحتملة، من أهمها احتمال تراجع العمليات العسكرية التركية في شمال العراق، فضلاً عن احتمال اندفاع “قسد” نحو الانخراط في هياكل الدولة السورية الجديدة، وتليين مواقفها بشأن خيار الحل الفيدرالي الذي تطرحه كنموذج لبناء الدولة السورية. كما يُرجح أن يساهم هذا القرار في إحداث نقلة نوعية في العلاقات التركية-الغربية، لا سيما وأن الملف الكردي ظل من الأوراق الخارجية الضاغطة على أنقرة. بيد أن هذه التحولات تظل مرهونة بتنفيذ قرار حل الكردستاني على أرض الواقع بجانب استجابة تركيا لهذا التحول المفصلي من خلال فتح آفاق أوسع للحوار مع الأكراد، وتلبية مطالبهم الثقافية والسياسية.