المشهد الشعبي في الدول الأوروبية بشكل عام وفرنسا بشكل خاص يشبه إلى حدّ كبير الحراك الشعبي الذي حصل في مطلع العقد الثاني من الألفية الثالثة في الوطن العربي. فالجماهير التي عمّت الساحات الرئيسية في باريس ومدن فرنسا والتي امتدت إلى بلجيكا وهولندا، والحبل على الجرّار، تشبه الحراك الجماهيري العربي. وليس من المستبعد أن تشهد الولايات المتحدة حراكاً مماثلاً غير أن الانقسامات الداخلية العمودية والأفقية في الولايات المتحدة قد تحول دون ذلك في الظرف الراهن، ولكن يمكنها أن تتغيّر لتصبح مؤاتية لحراك شعبي.
المطالب الأوروبية تشبه المطالب العربية. فهي احتجاجات على سلوك الحكومات والنخب الحاكمة وعدم اكتراثها لشجون وهواجس الشعب في عدم المساواة، والسياسات التي تستهدف الطبقات الوسطى والفقيرة في الغرب. وهي تشبه المطالب العربية بالخبز والكرامة وعدم التبعية. غير أن الجماهير الأوروبية تعيش في دول تحترم مبدئياً القانون وتحمي الحرّيات العامة التي بدأت تتآكل تحت وطأة القرارات الحكومية مع صعود الدولة الأمنية في مختلف دول الغرب. واللجوء إلى الشارع للتعبير إشارة إلى فقدان الثقة بالمؤسسات الدستورية وخاصة البرلمان الذي تجلس فيه الأحزاب المفترض أن تعبّر عن الشعب لذلك نشهد حراكاً في الشوارع. سياسات الرئيس الفرنسي ماكرون استكمال لسياسات اسلافه هولاند وساركوزي وشيراك في المرحلة الأخيرة من ولايته. التماهي مع سياسات الولايات المتحدة على الصعيد الخارجي واعتناق النيوليبرالية كعنوان للعولمة من سمات السياسة الفرنسية. التقشّف في الإنفاق الحكومي بغية الوصول إلى «توازن» في المالية العامة وفقاً لسياسات الصندوق النقد الدولي والبنك الدولي يكون دائماً على حساب الطبقات الوسطى والفقيرة. وما زاد الطين بلّة في فرنسا هو الإعفاءات الضريبية على طبقة الأثرياء والشركات الكبرى سواء كانت مالية أو غيرها. والحجة هنا كانت أن الأثرياء «ينفقون» وبالتالي «يخلقون» الوظائف. أما الضرائب على الطبقات الوسطى والفقيرة فهي لـ «حماية البيئة» من التلوّث من استعمال المحروقات في وسائل النقل! ومن نتائج سياسات التقشٌف في فرنسا وجود أكثر من 8 ملايين فرنسي يعيشون تحت خط الفقر والبطالة وصلت إلى 9 بالمئة، لذلك المطلوب عند الرئيس الفرنسي المزيد من «التقشف» خاصة أنه يتهم الفرنسيين بالكسل!
ما أصاب الرئيس ماكرون والنخب الحاكمة في فرنسا والعديد من الدول الأوروبية ومسؤولي الاتحاد الأوروبي غير المنتخبين الذين لا يخضعون لمساءلة ومحاسبة هو مرض التوحّد السياسي. بالمناسبة، هذا المرض ليس محصوراً في دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بل في معظم دول العالم وخاصة في دول الوطن العربي. وذلك مرض التوحّد هو عدم الاكتراث لرأي المواطنين على كافة تشكيلاتهم. كما يتبع ذلك المرض حالة الإنكار التي تتحكّم بتلك النخب. لذلك نشهد اليوم ردّة فعل المواطنين.
مرض التوحّد السياسي يتلازم مع الفساد المتحكّم بالنخب الحاكمة. فالمرض بحد ذاته هو فساد العقل والضمير فيسمح لكافة التجاوزات القانونية والأخلاقية. نرى ذروة ذلك التجاوز في الولايات المتحدة وداخل البيت الأبيض. والفساد أحد أسباب الأزمة التي تعصف في عدد من الدول الغربية وهو ظاهرة الضعف الناتجة عن ترهّل المؤسسات والنظام القائم. ذلك النظام لم يعُد بمستطاعه استيعاب التغييرات والتحوّلات في المجتمعات الغربية سواء على الصعيد السكّاني أو الاقتصادي أو المجتمعي أو الثقافي. فلا عجب أن يتحوّل الشارع الغربي إلى قاعة المساءلة والمحاسبة.
التعليقات التي واكبت ذلك الحراك في فرنسا وأوروبا عديدة. والكثير منها في مكانه وصائب. لكن بالنسبة لنا لم نفاجأ بالحدث الذي حصل وما زال في الشوارع الفرنسية لأنه يعكس الأزمة البنيوية التي تعصف بالغرب بشكل عام وفرنسا بشكل خاص. وهذه الأزمة البنيوية انكشفت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي فظهرت العورات الفكرية والسياسية والاقتصادية التي كانت تخفيها الحرب الباردة والصراع العقائدي بين المعسكرين.
العورات الفكرية تكمن في زيف الادّعاء أن الفكر الغربي بشكل عام، وعلمنته اللفظية، وتكريس دور دولة القانون من أسباب الرخاء والازدهار. غير أن ذلك الادّعاء يتجاهل دور الاستعمار في بناء رخاء تلك الدول. فبعد سقوط الحقبة الاستعمارية المباشرة ظهرت التبعية من قبل دول الجنوب المستعمرة سابقاً لدول الشمال. أما العورة السياسية فهي في الادعاء بأن هذه الدول تسيّر علاقاتها على قاعدة قيم كالديمقراطية وحقوق الإنسان وإذ تشجّع تنامي الدولة الأمنية التي تقوّض الحرّيات العامة. ومن جهة أخرى، دولة القانون والمساواة المزعومة ما زالت تحمي العنصرية المبطّنة والآن المعلنة مع أحزاب اليمين المتطرّف، وذلك لجعل المكوّنات السمراء والسوداء والمسلمين منها كبش محرقة لإخفاقات السياسات الفاشلة لدى النخب الحاكمة سواء كانت من اليسار الديمقراطي أو الوسط اليميني التي حكمت تلك الدول لحوالي خمسة عقود متتالية. وما تدّعيه النخب الغربية من «إنسانية» لا تُخفي وحشيتها في حروبها. فمأساة ليبيا واحتلال العراق والتنكّر لحق الشعب الفلسطيني ما زالت حيّة، ودعم تلك الدول لجماعات التعصّب والغلو والتوحّش في دول المشرق العربي ما زالت قائمة.
النزول إلى الشارع في دول تتغنّى بأنها دول القانون والمؤسسات الدستورية يكشف الأكذوبة الكبيرة التي روّجتها نخب الغرب والتي تلقّفتها النخب العربية المتغرّبة واعتبرتها قدوة لمسارات يجب اتخاذها لحلّ الخلافات والتعامل مع المطالب. فالقمع هو الجامع المشترك بين تلك الدول والنظام الرسمي العربي. فالغرب وصل إلى طريق مسدود على كافة الأصعدة، فكرياً أولاً، وسياسياً ثانياً، واقتصادياً ثالثاً ما أدّى إلى أزمة مجتمعية، إن لم نقل أخلاقية بسبب العنصرية المتفشّية والفساد الذي يسود النخب الحاكمة، والتي لم يعرفها من قبل ولا يدري حتى الساعة كيف يعالجها.
قلنا إننا لم نفاجَأ بما حصل. وبالفعل عرضنا في أبحاث ومقالات عدّة أفول الغرب بسبب تحوّلات سياسية واقتصادية، وديموغرافية لكن لم تستدع انتباه النخب العربية الحاكمة. فالغرب قدوة وقدر على جميع الشعوب ولا داعي لتفكيك فكره وسياساته. فعلينا أن نكتفي بالتنديد بها لعل وعسى! فالتحوّلات التي حصلت في الغرب بدأت بهجوم فكري وسياسي على دولة الرفاهية واتهامها بقتل المبادرة الفردية. لكن بالفعل، الهجوم كان وما زال على الدولة والدولة – الأمة كمؤسسة ترعى شؤون الناس. فالآخرون برأي النخب الحاكمة تحوّلوا من «مواطنين» إلى «مستهلكين»! هذا الهجوم تبنّته كل من رئيسة وزراء المملكة المتحدة السابقة مرغريت تاتشر والرئيس الأميركي رونالد ريغن. وما يعزّز هذا التوجّه بتحويل المواطنين إلى مستهلكين فقط مقولة لمرغريت تاتشر التي نفت وجود شيء اسمه «مجتمع» فقالت إن هناك فقط «مجموعة أفراد». تذكّرنا تلك المقولة بمقولة غولدا مائير التي نفت وجود «فلسطينيين» بل فقط «دابة تمشي على رجلين»!
أما العورات الاقتصادية فهي موجودة في صلب السياسات النيوليبرالية التي تحت ذريعة الحرّية في التنافس أدّت إلى تكوين الاحتكارات وتمركز الثروة في يد القلّة وزيادة الفجوة في الدخل وتفشّي الفقر في دول تدّعي الرفاهية. جاءت هذه السياسات كنقيض للسياسات الكينزية التي اعتمدتها دول أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية وضرورة إعادة إعمار أوروبا بعد التدمير الذي شهدته ولكبح تقدّم الموجة الشيوعية. غير أن بعد الانتهاء من إعادة الإعمار الذي قادته الحكومات عبر إنفاق حكومي كبير وتوزيع مقبول للثروة وخطط مركزية اعتمدتها الحكومات بدأ التهجّم على الدولة كقاطرة للنهوض الاقتصادي.
والمنظّر الفكري لذلك الهجوم على الدولة ودورها في الاقتصاد ورعاية شؤون المواطنين الاقتصادي النمساوي فريدريش فون هايك في كتاب شهير عنوانه «الطريق إلى العبودية». كما تولّى الهجوم في الإطار النظري الاقتصادي الأميركي ميلتون فريدمان ونفّذ توجّهاته في السياسة النقدية حاكم الاحتياط المركزي الن غرينسبان. فحوى النظرية والسياسة المتبعة هي التأكيد على قوَامة السياسة النقدية على السياسة المالية لأن الأخيرة أداة للدولة وتوغّلها في النشاط الاقتصادي بينما السياسة النقدية تدعم النشاط الاقتصادي دون توغّل الدولة وبكلفة أقل على الاقتصاد لأن السياسة النقدية لا تتبع سياسة استدانة الدولة، فالفوائد العالية التي تنتج عن السياسة المالية. وسقوط الاتحاد السوفياتي اعتبرته النخب الغربية انتصاراً لذلك الفكر الذي يشجّع الفردية والحرّية المطلقة. غير أن الهدف كان تحويل الدولة لخدمة الشركات الكبرى وعلى حساب المواطن تحت سقف العولمة التي انفجرت على الساحة الدولية بسبب الثورة التكنولوجية في التواصل والنقل والاحتساب.
الولايات المتحدة قادت وما زالت تقود الهجوم على «الدولة» ومؤسساتها في الدول، وخاصة تلك التي تشعر بأنها قد تعارضها. وحتّى داخل الولايات المتحدة هناك من يعتقد أن الحكومة المثالية هي الحكومة الأقلّ تدخّلا في الشأن الاقتصادي والخاص. أما في أوروبا فالمطلوب القضاء على الدولة – الأمة كي لا تكون عائقاً أمام سياسات تفرضها مجموعة نخبوية غير منتخبة تعتبر أنها «تعلم» أكثر من الأقلّ اطلاعاً منهم، أي الشعب. وهناك تنامي احتقار الجماهير من قبل النخب. فليس من الصدف أن يزّل لسان المرشّحة الديمقراطية هيلاري كلينتون باتهام ناخبي منافسها ترامب بـ «المنبوذين». وليس أيضاً من الصدف أن يتهم الرئيس الفرنسي ماكرون الفرنسيين بـ «الكسالى». هناك نمط واضح عند النخب الغربية في احتقار الجماهير، وذلك في بلاد «التنوير» و»دول المؤسسات والقانون والحرّيات». بالمقابل هناك تنامي للدولة الأمنية التي تقمع كل صوت مخالف تحت سقف محاربة «الإرهاب» التي خلقته أجهزة تلك الدول والذي أصبح مقروناً بهجرة أبناء الجلدة السمراء والسوداء.
من سمات السياسة النيوليبرالية الهجرة الوافدة لتأمين النمو السكّاني الطبيعي بعد ما تدنّت معدّلات النمو السكاني للسكان الأصليين. إضافة إلى ذلك فإن الهجرة الوافدة من أفريقيا والوطن العربي وأواسط آسيا إلى أوروبا كانت مطلوبة من قبل النخب الحاكمة، لأنها تشكّل يد عاملة رخيصة تضغط على خفض الرواتب والأجور. وبالتالي كان لا بد أن يحدث احتكاك له طابع اقتصادي واجتماعي في آن واحد بين السكّان الأصليين والمهاجرين الوافدين. من هنا يمكن فهم الحركات الاحتجاجية في مختلف الدول الأوروبية ضد النخب المنتخبة كالمسؤولين السياسيين وغير المنتخبين كالقيّمين على مؤسسات الاتحاد الأوروبي. فالبرلمان الأوروبي والشعوب تلعب دور الكومبرس في المسرحية التي تعرضها تلك النخب في إدارة الشأن العام. وهذا ما ترفضه الجماهير عبر احتجاجاتها المشروعة والتي لم تستطع الأحزاب السياسية «الوسطية» على كافة تشكيلاتها تبنّيها واحتوائها لأن الأحزاب وحتى النقابات أصبحت جزءاً من ذلك النظام. لذلك صعدت موجة الأحزاب المتطرّفة التي تستغّل الظروف الراهنة لإثبات حضورها في المشهد السياسي.
زياد حافظ – الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي
Discussion about this post