(… إن أولويات العمل في المرحلة المقبلة ومحورها الأساسي هو مكافحة الفساد…)
الفساد ظاهرة وبائية عالمية، تختلف من مجتمع لآخر، نتيجة للظروف والتراكمات التي يعيشها كل مجتمع. الدولة بشكل عام في عصر ما بعد الحداثة المُعولمة أصبحت ضحية الثورة التكنولوجية التي جعلت من الأفراد الخارجين على القانون يهددون أمنها جراء تفشي الفساد… ما يهمنا هنا موضوع الفساد بمنظور شامل (كما قال رئيس الجمهورية بشار الأسد) أي الفساد الإداري والمالي الذي لا يقتصر على استغلال المنصب العام لغرض تحقيق مكاسب شخصية، وإنما يتعداه إلى خلل آخر مؤسساتي كهدر الأموال العامة وتراجع نوعية الخدمات المقدمة… وهي جميعها أوجه للفساد الذي يسهم في تعميم ثقافة الإحباط وعدم الانضباط… ما يتطلب اتخاذ كل الإجراءات الممكنة لمكافحته وخاصة في الأزمات والحروب.
الفساد الإداري والمالي يكتسب أشكالاً عدة بما في ذلك الرشوة والمحاباة وإقصاء الكفاءات المؤهلة والمحسوبية وإساءة استخدام السلطة والنفوذ والابتزاز والتهرب الضريبي، وتبييض الأموال… ونهب المال العام، ووضع الشخص المناسب في المكان غير المناسب والتهاون في تطبيق الأنظمة والتشريعات. ومنظومة الفساد تتكون من فساد إداري يختص بالجهاز البيروقراطي للدولة. وفساد اقتصادي، يتعلق بالقطاع العام أو الخاص. وفساد قانوني، حال تضارب القوانين أو عدم تطبيقها أو الانتقائية في تنفيذها..
من أسباب الفساد ضعف المؤسسات، عدم الشفافية وعدم إيضاح حقوق الأفراد وواجباتهم إضافة لدور الموروثات الاجتماعية، والكوارث والحروب والحصار الاقتصادي… هناك علاقات ارتباط وسببية بين مستويات الفساد المرتبطة بعوامل منها:
– العوامل القانونية: إذا كانت القوانين واضحة صارمة، فإن من السهولة بمكان اكتشاف حالات التورط في الفساد.
– العوامل البيروقراطية: تشكل البيئة البيروقراطية مرتعاً للفساد، وكلما كثرت القوانين والتعليمات وتداخلت مع بعضها بعضاً، كثرت محاولات الالتفاف عليها.
– العوامل الاقتصادية: وتتصل اتصالاً وثيقاً بالعوامل البيروقراطية، التي تؤسس لعلاقات اقتصادية، تتسم بالاستغلال.
– العوامل المعيشية: تتعلق بضعف الأجور والرواتب التي يتقاضاها الموظفون الحكوميون.
إن السياسات التي لا تقوم على قاعدة معلومات صحيحة، أو تفاضل بين البدائل والخيارات المتاحة، تؤدي لعدم استثمار الموارد الاقتصادية والطاقات البشرية على نحو أمثل وهذا يتسبب بخسائر اقتصادية… التكلفة السنوية للفساد في العالم تراوح بين 1.5 وتريليوني دولار تقريباً، أي نحو 2 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي العالمي، وتعادل نحو 10 مرات قيمة المساعدات التي تقدم للدول النامية.
يؤدي الفساد إلى انخفاض النمو وارتفاع عدم المساواة في الدخل. ويضعف المعايير الأخلاقية للمواطنين، يفضي الفساد إلى مزيد من التهرب الضريبي. ويحد من بناء رأس المال البشري. ويزعزع الاستقرار السياسي، كما يؤدي إلى إضعاف قيم المواطنة، ويضعف قدرة الدولة على تعبئة الإيرادات وأداء وظائفها الأساسية ويشوه الإنفاق بإبعاده عن الاستثمارات ذات القيمة مثل الصحة والتعليم… الفساد أشبه بضريبة على الاستثمار، يقوض الثقة بالمؤسسات، ويتسبب في تفكيك النسيج الاجتماعي، الفساد يؤدي لإلحاق الضرر بالمصلحة العامة للمجتمع والانتقاص من سيادة الدولة ومؤسساتها. وبالتالي يُضعف المنظومة الاقتصادية والسياسية والقانونية للدولة.
لما كانت آثار الفساد تطول جميع صعد الحياة السياسية والاقتصادية والأخلاقية والاجتماعية فإنه يجب مكافحته وإيجاد آليات الحد منه. إذا ما أدى كل منا واجباته وفقاً لما تمليه أخلاقيات الوظيفة العامة، فإن مساحة الفساد ستنحسر إلى حدودها الدنيا. مكافحة الفساد يستدعي توافر ثلاثة شروط:
1- الشفافية في عمل الدولة ومؤسساتها.
2- الحكم الرشيد، ويعني الحكمة في استخدام الموارد المُتاحة وحسن اختيار السياسات الاقتصادية.
3- المساءلة القانونية للقائمين على إدارة شؤون الدولة، والمحاسبة الصارمة لمرتكبي الفساد.
ظاهرة الفساد معقدة تتداخل فيها قضايا سياسية وإدارية ومالية، لتكون حلقة مفرغة، يجب إنهاؤها من خلال:
1- اعتماد جهاز رقابي واحد، يتمتع بالاستقلال في مراقبة السلطات.
2- حصر ومعرفة مصدر ثروات كبار المسؤولين من الأجهزة الرقابية التي يُفترض أن تتحقق من صحتها أثناء وبعد تولي المسؤولية العامة.
3- الاستفادة من الإمكانات الوطنية المتاحة للمصلحة العامة بما في ذلك تلبية احتياجات المواطنين الأساسية تطبيق مبادئ تكافؤ الفرص وربط الأجر بالإنتاج، وهذا من شأنه تطويق بيئة الفساد وإضعافها.
4- التوعية وإشاعة مناخ ثقافي ناقد… ولوسائل الإعلام دور مهم في الكشف عن ممارسات الفساد، وإعلاء قيم النزاهة والتضحية ونكران الذات.
5- يجب وضع إستراتيجيات مضادة للفساد
6- سن الأنظمة والتشريعات والقوانين والشفافية والوضوح في تطبيقها وقد جاء في توجيهات الرئيس الأسد (الجزء الأكبر من الفساد يأتي من الثغرات في القوانين) لذا يجب إعادة النظر بالقوانين، ووضع عقوبات رادعة وواضحة وتبسيط التشريعات والأنظمة.
7- توفير القيادات المؤمنة بالتطوير والتي لديها مؤهلات ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب بالاعتماد على الكفاءة والإبداع وعدم الاعتماد على العلاقات الشخصية والواسطة.
8- في مقدمة إجراءات مكافحة الفساد يأتي موضوع تبسيط وتسهيل المعاملات والإجراءات اليومية التي يحتاجها المواطن… والتوسع في مراكز خدمة المواطن كما أكد عليه الرئيس الأسد.
9- تفعيل برنامج الحكومة الالكترونية.
10- المحافظة على المال العام وعدم استغلاله لتحقيق مآرب شخصية واعتماد المعايير الدولية لشفافية المالية العامة.
11- مكافحة الفساد يتطلب وجود مؤسسات تتمتع بالقدرة على مواجهة الصعوبات والمشاكل التي أوجدتها الحرب.
12- إنشاء محاكم ومؤسسات متخصصة لمواجهة الفساد ووضع إطار فعال لمكافحة غسل الأموال.
13- يجب أن يكون القادة أنفسهم أمثلة يُحتذى بها. لتصبح إستراتيجيات مكافحة الفساد فعالة، يتعين أن تتجاوز مجرد إلقاء الفاسدين في السجون… لأن (الأهم في مكافحة الفساد هو الوقاية والردع) وكل مسوؤل يجب أن يكون في خدمة المواطن…
14- يجب التصدي لممارسات الفساد في القطاع الخاص وذلك من خلال تقوية الأطر القانونية والمؤسسية الموجهة لمكافحة الفساد.
باختصار تتطلب إصلاحات تنظيمية ومؤسسية. فالمؤسسات القوية والشفافة والمسؤولة هي «العلاج» الأكثر استمرارية للفساد.
الفساد عقبة كأداء أمام تحقيق أهداف التنمية المستدامة. لذلك يجب التركيز على الشفافية والمساءلة، إضافة إلى فعالية الحكومة وتمتعها بالكفاءة والخبرة الإدارية اللازمة، وهذه الشروط أو غيرها هي التي تُحصن المجتمع من آفة الفساد. وبالتالي إذا كانت القرارات الحكومية موضوعية من حيث خياراتها ومبرراتها ودوافعها، وإذا خضع المسؤولون للرقابة الوقائية والملاحقة، فإن ذلك يؤدي إلى التقليل من الفساد وهدر الموارد… ودفع عجلة التنمية.
طوال ثماني سنوات من الحرب الإرهابية على سورية… استغلت بعض الفئات ظروف الحرب الاقتصادية والسياسية والأمنية من أجل خلق ثروات بطرق مختلفة، وتراكمت ثروات مالية وعينية ضخمة… على حساب الشعب، وعلى حساب صموده وتضحيات وبطولات الجيش العربي السوري.
وأرى هنا أنه من المفيد تطبيق قانون الضريبة على الدخل لإخضاع أرباح الثروات الكبيرة التي تحققت أثناء الحرب، بغض النظر عن مصدرها. وقد يكون من المفيد أيضاً إخضاع أصحاب هذه الثروات (لضريبة دخل أرباح وطنية طوعية) كنسبة من ثرواتهم… وانخراطهم وطنيا ببرامج إعادة الإعمار… أسوة بتجارب إنمائية ناجحة أخرى في العالم وكما وجه الرئيس الأسد: أن (الشعب بجميع فئاته صبر وضحى وفي المقدمة القوات المسلحة وكل من وقف معها ومن حق كل من صبر وقدم أن يرى نتائج هذا الصبر فهؤلاء ضحوا من أجل ثمن كبير هو الوطن ومن حق هؤلاء أن يروا الأفضل ومن واجب الحكومة أن تجعلهم يرون هذه النتائج وفي مقدمتها مكافحة الفساد..)
أخيراً، أرجو أن تسهم الأفكار التي عرضتها في إيجاد برنامج وطني ممنهج ومتكامل لمكافحة الفساد… لتتضافر كل الجهود والسواعد الوطنية المعنية (العام والخاص) بما يساعد على وضع توجيهات رئيس الجمهورية موضع التطبيق… ويحقق نتائج يلمسها المواطن.
قحطان السيوفي – الوطن السورية
Discussion about this post