لعل من محاسن الصدف أن تتزامن جملة المندوب السوري الدائم في الأمم المتحدة بشار الجعفري التي رد فيها على مندوب السعودية، مع انطلاق حراك أصحاب «السترات الصفراء» في فرنسا.
ومن الأكيد أن الجعفري حين قال في 19 الشهر الماضي أمام مجلس الأمن عبارة «عليكم أن تتخيلوا أن يكون فرنسا اسمها الجمهورية الماكرونية أو الولايات المتحدة اسمها الولايات المتحدة الترامبية»، لم يكن يقصد أن يطلب الخراب لفرنسا أو غيرها، إذ لم يصدر عن سورية تاريخياً أي خطاب رسمي يتمنى المشكلات لدول أخرى على غرار الخطابات الرسمية العربية والغربية ضد سورية منذ سنوات سبع.
بعيداً عن مشاعر التضامن مع «السترات» أو مع ماكرون، فلسنا فرنسيين في النهاية، لكن الأحداث التي تجري تشي بجملة متغيرات بنيوية في المجتمعات الغربية وأنظمتها السياسية ونماذجها «الديمقراطية».
وإن كانت فرنسا ساهمت بخلق وتأجيج ما يسمى «الربيع العربي» كحال غيرها من القوى الكبرى، ونحن لا ندعي امتلاك أدلة دامغة، إلا أن الواضح أن ثمة انزياحاً فكرياً ونمطياً في طرق التعبير انتقل عبر المتوسط من شمال إفريقية إلى الجنوب الأوروبي، وبدأنا نرى بذوره تثمر في باريس ومن ثم مدن أخرى فرنسية وغير فرنسية، لكن اللافت أن المجتمعات الغربية وبعد سنوات من اعتيادها الاحتجاج الصامت أو الاحتجاج المنظم ضد سياسات حكومية لا ترتقي لطموحات مواطنيها، بدأت تنتقل إلى الاحتجاج العنيف، مستقية من مشاهد «الربيع العربي» أمثلة ونموذجاً يحتذى، وقد يكون من المبكر جداً على مجتمعات كالمجتمع الفرنسي أن تطالب برحيل رئيس دولة في وقت لم يبلغ الاحتجاج في الشارع الفرنسي مبلغاً يوازي حجم هذا الطرح، لكن الثابت أن طرحاً كهذا كان براءة اختراع لمن سموا «ثوار الربيع العربي» لاسيما في تونس، حتى لو كان بإملاء خارجي.
بالانتقال إلى مقارنة قيادة «السترات» مع قيادات «الربيع العربي» نرى الموقف متشابهاً، إذ تراجع دور الأقنية الرسمية للتعبير لمصلحة تقدم قوى غير خبيرة وقيادات مستجدة لا تمتلك خبرة التفاوض مع الحكومات فتغطي على هذا النقص باللجوء للعنف، وهنا يكمن بيت القصيد.
إذا كانت الأجهزة الوسيطة في الدول العربية بين السلطة والشعب هي وليدة السلطة نفسها، وبدأ تكوينها من القمة إلى القاعدة بعكس القاعدة الداروينية للتطور، فإن نمط الأنظمة السياسية في الغرب يسمح لقاعدة داروين أن تأخذ مجراها، ورأينا أدواراً مختلفة للنقابات والمنظمات والأحزاب في الغرب في مناهضة السلطة والأنظمة السياسية الحاكمة، وتم إسقاط بعضها، لكن بالانتخابات واستقالات حكومية أو ضمن الحكومات نفسها نتيجة عدم قبول سياسات معينة، فما الذي تغير في الغرب.
يبدو أن تراخي بنية الاتحاد الأوروبي ونمو اليمين المتطرف توازياً مع دعم الأخير لتنظيمات وحركات أصولية في الشرقين الأوسط والأدنى، وحتى في إفريقيا، لخدمة سياسات وأطماع اقتصادية، يضاف إليه عودة البعض من الإرهابيين من سورية والعراق، ساهم أيضاً بتراجع الأحزاب الشعبوية لصالح تقدم أحزاب النخب وأحزاب اليمين، وفي ذلك تغييب لأحد أهم قنوات التعبير في المجتمع الغربي الذي اعتاد نماذج من الديمقراطية تتيح له التعبير وتسمح للأحزاب بقيادته نحو التغيير، وقد بدا هذا جلياً من خلال عدم بروز أي قوى في فرنسا حالياً تقود «السترات الصفراء» أو تقدر على مفاوضة الحكومة، وهذا ما لمسناه بعد رفع الضريبة على المحروقات ليعود أصحاب «الستر» ويقدموا 25 مطلباً جديداً، وهذه إستراتيجية ألفتها الأنظمة السياسية منذ ثورة يناير في مصر التي أطاحت بالرئيس المصري حسني مبارك واستفادت منها سورية عندما أدركت أن تحقيق كل المطالب للمتظاهرين سيدفع بهم نحو مطالب جديدة في حركة توالدية لا نهاية لها، وساهم هذا الأمر بسرعة لجوء الطرف الآخر إلى السلاح كوسيلة للتعبير.
وبما أن فرنسا بما تمتلكه من إرث سياسي وتجارب في الديمقراطية ونظام سياسي قادرة في النهاية على تجاوز محنتها الحالية دون أن تتعرض بنية الدولة للتفكيك حتى وإن طال أمد أزمتها إلى المدى المتوسط، سنة على الأكثر، ولكن لن يكون خروجها كاملاً، إذ ستبقى ثمة خلايا اجتماعية كبؤر للتحرك في أي موضوع باستخدام العنف، وثمة قوى طامعة وقوى دولية أخرى لا بد أن تستثمر ما يحصل لبلاد الذوق والعطر والموضة، وهل من فرصة أفضل للولايات المتحدة أولاً وروسيا ثانياً، حتى إذا ما استبعدنا شبهات المؤامرة.
باعتبار أن المطامع الأميركية باتت معروفة بعد محاولة ماكرون الخروج من عباءة واشنطن بتحميل حلف «ناتو» نفقات إضافية لبناء جيش أوروبي وتعارض الرؤى بما يخص ملفات عديدة كالمناخ والأمن الأوروبي والنووي الإيراني وغيرها، إلا أن الفرصة اليوم سانحة أمام القوة الروسية التي يمثلها الرئيس فلاديمير بوتين باعتبار أي ضعف إضافي يصيب الاتحاد الأوروبي يقابله صعود للدور الروسي كمنافس للولايات المتحدة في بنية النظام الدولي، كيف لا واتحاد بروكسل صعد على حساب انهيار الاتحاد السوفييتي، كما أن منظومة الاتحاد تشكل تهديداً جدياً لروسيا اقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً، أكثر مما تمثله الولايات المتحدة نفسها، ومن غير المستبعد أن تستثمر موسكو الخلافات الفرنسية مع دول الاتحاد لتعزيز دورها المستقبلي مستفيدة من الخلافات الفرنسية الأوروبية فيما يتعلق بملفات كالهجرة والسياسة الأوروبية الموحدة وغير ذلك.
في المقابل تبدو ألمانيا التي ورثت الدور البريطاني في قيادة الاتحاد الأوروبي، أقرب المقربين إلى فرنسا إذ تجمعهما وحدة المصير، لكن برلين كانت منشغلة بنقل أولي للسلطة من أنجيلا ميركل زعيمة «الحزب المسيحي الديمقراطي» إلى خليفتها وصديقتها أنغريت كرامب كانيبارو من جهة، ومن جهة أخرى تدرك ألمانيا أنها المرشح الأبرز لانتقال احتجاجات «السترات» إليها في ظل تزايد الهوة بين المهاجرين اللاجئين وبين الألمانيين أنفسهم ولاسيما أحزاب اليمين الرافضة لتوطين اللاجئين، ولا تريد من جهة ثالثة ألمانيا التدخل، خشية زيادة ملفات المواجهة مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
إن فرنسا التي ستخرج عاجلاً أم آجلاً من عنق الزجاجة في أزمتها، لن تعود فرنسا القوية، والاتحاد الأوروبي سيكون أكثر من يتأثر بهذا الخروج الضعيف، ليخسر قوة أخرى بعد خروج بريطانيا منه.
سامر علي ضاحي – الوطن السورية
Discussion about this post