لقد انقضى عصر «نظرية المؤامرة» بعد أن انكشفت مخططات تدمير بلداننا الموضوعة منذ عقود، ودخل العالم اليوم مرحلة جديدة لا مجال فيها للجدل حول منطلق الأحداث ومسارها وأهدافها. وقد كان التعامل الأميركي والغربي عموماً مع مسألة مقتل الصحفي السعودي خاشقجي بمنزلة الشعرة التي قصمت ظهر البعير. فمن قال إن رؤية الغرب المركزية تتمحور حول حقوق الإنسان وحول ضمان سريان العدالة في العالم؟ إن التعامل الأخير قد أثبت من دون أدنى شك أن المهم بالنسبة للطبقة الرأسمالية الحاكمة في الغرب هو تراكم المزيد من المال عبر نهب ثروات الشعوب الأخرى وخاصة النفط العربي بغض النظر عن أنظمة حكم أو ما تقترفه هذه الدول من جرائم بحقّ شعبها أو بحقّ الإنسانية جمعاء. كما أن التعامل مع أصحاب السترات الصفراء في فرنسا بالمقارنة مع من سموهم بثوار ومعارضين في أوكرانيا وسورية وليبيا قد أظهر أيضاً حقيقة النفاق الغربي الذي لم يأبه لتدمير المؤسسات في أوكرانيا وسورية وليبيا على أيدي إرهابيين مرتزقة ولكنّه تنادى لحماية هذه المؤسسات وتطبيق القانون حين تعلق الأمر بدولة أوروبية غربية وبدلاً من تسمية هؤلاء ثواراً أو معارضين تمت تسميتهم خارجين على القانون ومثيرين للشغب.
وفي السياق ذاته من انكشاف المستور فإن مجريات الأحداث في تونس ومنذ ما سموه الربيع العربيّ حتى اليوم نشهد أن المدبرين لهذه الأحداث قد استهدفوا الشخصيات العروبية القومية، بالعيد والبراهمي، وحين اعتلت الأصوات المطالبة بالكشف عن المجرمين والتفت الدوائر العروبية لتشكل تياراً مهماً في تونس نلحظ التداخلات الخفيّة لمنع هذا البلد العربيّ من استعادة عافيته على أساس استقلال القرار والتوجه الوطني العروبي الصحيح. والأمثلة وفيرة للبرهان على أن الباحثين والمهتمين لن يختلفوا في وضع مرتسمات المرحلة الحالية من السياسة الغربية ودورها في إشعال الفتن والحروب في أي منطقة ترفض أن تنصاع لقرارات الحكومات العميقة في الولايات المتحدة والغرب عموماً والتي تمثل مصالح الطبقة الرأسمالية التي اكتنزت التريلونات وتطالب بالمزيد.
والسؤال التالي الذي يلي مرحلة اليقين هذه هو ما الذي يجب على الشعوب المستهدفة فعله، كي تبدأ برسم إستراتيجيات جديدة لمواجهة هذا الواقع الجديد والمكشوف بعيداً عن الخوض في النظريات والتكهنات التي تجاوزها الزمن، وما الأمراض المحليّة التي تشكّل ثغرات حقيقية تنفذ من خلالها مخططات الأعداء وربما ينفذها من يدعي حمل لواء الوطنية ولكنّه في حقيقة الأمر يخدم من يستهدف الوطن سواء كان ذلك عن وعي أو عن غير وعي. والأمر الذي نريد ملامسته هنا هو ما الأساليب السياسية التي تساهم في حماية الأوطان وما الظواهر التي تضعف الأوطان وتجعلها سهلة المنال للخصوم والمعتدين والطامعين؟
لقد شهد القرن العشرون حركات تحرر وبناء عروبية قومية قامت معظمها على مبدأ تنظيم الأحزاب الوطنية المؤمنة بأهداف واضحة معلنة وخطّت من أجل ذلك أساليب شفافة لبلوغ هذه الأهداف وتابعت وراقبت وعملت كي تضمن أن العاملين ضمن هذه الأحزاب مؤمنون بأهدافها وعاملون على تحقيقها، وهكذا فقد تحقّق الاستقلال في معظم الدول العربيّة وبدأت مرحلة البناء بوتائر وإنجازات مختلفة ولكن بتوجيه واضح ومتفق عليه من التيارات السياسية الأساسية. أما اليوم فإن أخطر ما يواجه العمل العربيّ الحقيقي في مختلف أقطاره هو ظاهرة «الاستزلام» بدلاً من ظاهرة الانتماء السياسي الوطني الواضح. فالذي نلحظه اليوم هو أن أشخاصاً يعتبرون أنفسهم معنيين بالسياسة وبالمستقبل يديرون شبكة علاقات تابعة لهم شخصياً وتتحرك بأوامرهم، وربما من دون نقاش أو جدل حول الرؤى والأهداف المراد تحقيقها، بدلاً من أن تكون هذه الشبكة مؤمنة أولا وأخيراً بمنظور وطني محدد تعمل على تحقيقه وتبذل ما بوسعها في سبيله، أي بدلاً من الإيمان العقائدي الذي هو ضمانة لأي منظمة عسكرية أو سياسية بحجم الوطن.
والفرق بين المبادئ العقائدية التي كانت سائدة ومعتمدة في العقود الماضية وبين ظاهرة الاستزلام، التي تنمو وتكبر في رحم مجتمعات ما بعد «الربيع العربيّ»، فرق جوهري يجب التوقف عنده ومراجعة مجريات الأمور في ضوئه. فالعقيدة العسكرية أو السياسية هي عقيدة الوطن الواحد والشعب الواحد والرؤية الواحدة والهدف الواحد، أما الاستزلام فهو امتداد للعشائرية والطائفية والمذهبية والمناطقية والمصالح الشخصية التي يحاول الأعداء غرسها في قلب عالمنا العربيّ كي لا تقوم له قائمة، حتى وإن حاول، ضمن هذه المرتسمات التي رسمها له الأعداء وأعوانهم. والعقيدة تتجاوز الأفراد لتتكون ضمن مجتمع يدخل إليه الأفراد أو يغادرون ولكنّه كمجتمع وكوطن باق بقوة المنهجية المتبعة والإيمان العميق بالمبادئ، أما الاستزلام فهو ترجمة للسياسة التفتيتية التي يعمل خصومنا وأعداؤنا على غرسها في مجتمعاتنا بأي شكل من الأشكال وبأي ثمن كان لأنهم يدركون أن «الاستزلام» كالطائفية والعشائرية تماماً، يفرّق ولا يوحد ويدمّر ولا يبني ويقسّم ولا يجمع لأن منطلقه هو رؤية الفرد، سليمة كانت أو مضلّلة، وأنّه لا مجال فيه للنقاش أو الحوار أو حتى الاختلاف وأنّه لا وجود به لمنظور الوطن الواحد الذي يستظلّ بظلّه الجميع ويعمل على حفظه وصيانته الجميع كلّ حسب قدرته ومؤهلاته.
المطلوب إذاً من أجل صون الأوطان في مرحلة لم يعد بها أسرار أبداً وأصبحت القوى الكبرى والصغرى مكشوفة للجميع، المطلوب هو العودة إلى التنظيمات العقائدية السياسية التي تضع إستراتيجيات بحجم الوطن وتنوّع مكونات هذا الوطن وشموخه في الماضي والحاضر والمستقبل.
المطلوب إذاً في عصر هزلت به أساليب الدول الاستعمارية المحتلّة، والتي ملأت الكون بالحديث عن حرصها على البشر، في حين دمرت أكبر أعداد من البشر عبر تاريخها الحافل بالحروب والمجازر وجرائم الإبادة والتطهير العرقي والديني، هو التوقف عن توصيف الآخر وتوجيه اللوم له على كل ما ينتاب بلداننا من ضعف وأن نركّز على الظواهر الداخلية التي تقف عائقاً حقيقياً في وجه تقدم هذه البلدان ومنعتها وازدهارها. المطلوب إذا هو الرؤية الوطنية الواضحة والصدق في مقاربة هذه الرؤية بعيداً عن الانتهازية والوصولية و«الاستزلام»، والعمل الدؤوب والجمعي لتحقيق هذه الرؤية. فقد ثبت دون أدنى شك أن الشعب الذي يحسن خياراته وأعماله بعزيمة لا تلين لا يمكن لأي قوة خارجية أن تقهره.
إنها دعوة لمراجعة شاملة بعد هذه الحروب الغادرة التي عصفت بأمتنا وفي ضوء الصفقات الخطيرة التي تعدّ لها، دعوة للبناء والتحصين من الداخل بعد أن وضحت أبعاد الاستهداف وأساليبه.
بنت الارض – الوطن السورية
Discussion about this post