عندما تفتح ببساطة صفحة الويكيبيديا لتأخذ معلومات سريعة عن الحروب الدينية في أوروبا التي اجتاحتها في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلادي فإنك تجد أن هذه الحروب استمرت لأكثر من مئة وواحد وثلاثين عاماً ما بين عامي 1517م- 1648م تاريخ توقيع اتفاقية ويستفاليا الشهيرة التي أنهت هذه الحروب، ونقرأ أيضاً أنها اجتاحت سويسرا، فرنسا، ألمانيا، النمسا، هولندا، إنكلترا، اسكتلندا، إيرلندا، الدانمارك، وذهب ضحيتها حسب تقديرات مختلفة ملايين البشر، ومع ذلك شهدت القارة الأوربية حربين عالميتين الأولى والثانية أزهقت أرواح ملايين البشر أيضاً، والخلاصة أنهم تعلموا من دروس الماضي، وأنتجوا حاضراً، وبالتأكيد يتطلعون للمستقبل وتحدياته المعاصرة، ولا ينظرون لهذا الماضي الأسود الذي يأخذون منه دروساً مستخلصة، ولا يكررون مآسيه، هكذا يفترض، على الرغم من وجود عداوات تاريخية بين الفرنسيين والألمان مثلاً، أو بين الفرنسيين والإنكليز، وهكذا دواليك.
مناسبة الحديث هنا النقاش الذي جرى مؤخراً بشأن شخصية تاريخية، ومكانتها ودورها، وطبعاً لست هنا بصدد الدخول في هذا الجدل الدائر، وإنما بطرح السؤال التالي: ماذا يفيدنا مثل هذا الجدل الآن، وهل هو أولوية قصوى بالنسبة لنا في مجتمع خارج من حرب فاشية شنت عليه، ولديه من الأولويات والاحتياجات ما هو أكثر إلحاحاً بكثير من مناقشة قضية تاريخية، أو شخصية في هذا التاريخ الطويل، والإشكالي!
بمعنى أنه كان بإمكان الأوروبيين أن يستمروا بالجدل والنقاش حول مرحلة الحروب الدينية التي استمرت لأكثر من مئة عام، أو أن يبقوا يعيشون في مرحلة الحربين العالميتين، ولكنهم تجاوزوا كل هذه المآسي عندما أنتجوا واقعاً جديداً اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً انعكس على حياة شعوبهم ورفاهيتها وتقدمها وواكبوا الحياة المعاصرة، وتحديات المنافسة في العالم، وكذلك الأمر سنجد القصة نفسها لدى الصينيين الذين عاشوا مراحل صعبة في تاريخهم المعاصر، وتعرضوا للغزو الخارجي، ولديهم تاريخ حضاري عريق، ومع ذلك فإنهم استلهموا من تاريخهم الدروس المستفادة، وتفادوا المراحل والشخصيات الإشكالية حرصاً على حاضر شعبهم، ومستقبله فأصبحوا في المرتبة الثانية اقتصادياً على صعيد العالم، وعلى الرغم من أنهم عانوا ما عرف بـ«الثورة الثقافية» في عهد ماوتسي تونغ لكنهم لا يتطرقون إلى هذه المرحلة الإشكالية وحافظوا على احترام، ومكانة الزعيم «ماو» في ذاكرة الشعب الصيني، كما أنهم استفادوا من أخطاء تلك المرحلة لينهضوا، ويتقدموا من دون أن يأسرهم الماضي والتاريخ وإشكالاته.
ولو أخذنا أمثلة، ونماذج أخرى في هذا العالم لوجدنا الكثير في كوريا وماليزيا واليابان وغيرها من الدول باختلاف تجاربهم، وتاريخ بلادهم الأسود منه والأبيض، ولكن العبرة فيما هم عليه اليوم، وأين موقعهم على خريطة العالم، وساحات المنافسة العلمية والتكنولوجية، والأهم الاقتصادية، وكل هذه النماذج ببساطة تعلمت من تاريخها، وأخذت دروساً للحاضر والمستقبل.
لا يعقل على الإطلاق أن نبقى ضمن تحديات حاضرنا الكبيرة والضخمة، وتطلعاتنا للمستقبل منشغلين بخلافات تمتد لخمسة عشر قرناً، أو نقاشات سفسطائية حول هذه الشخصية أو تلك من هذا التاريخ الطويل، وسعي البعض بين الفينة والأخرى من حيث يقصد، أو لا يقصد لبث قصة هنا، أو رأي هناك تؤثر في هذه المرحلة الحساسة على وحدة المجتمع وتشغله عن المشاكل والأولويات التي يجب أن يفكر بها، ويعمد إلى تجاوزها من أجل مستقبل أفضل.
العالم أيها السادة يمشي إلى الأمام، ويبحث عن المستقبل في الوقت الذي نهرب فيه نحن للماضي باحثين عن راحة البال، والاسترخاء في أحضان تاريخ مضى، وانتهى من دون أن نتحدث عن كيفية مواجهة الحاضر، ومشاكله وتحدياته الكثيرة التي تحتاج من الجميع عملاً، وشراكة وتفكيراً مشتركاً من أجل تجاوزه نحو الأفضل.
توقفوا عن مناقشة القضايا المعاصرة، والحديثة بأدوات وعقلية، وتصورات التاريخ، وانطلقوا نحو تطويع التاريخ وإيجابياته من أجل حاضر أبنائنا ومستقبلهم، لأن الخطورة تكمن في استحضار التاريخ ورواياته، وكأنه هو الحاضر بتحدياته، وهذه قضية قمة في المأساة لأن المطلوب منا أن نخضع التاريخ، لا أن نخضع له، ونستمر في اجترار قصصه وشخصياته، وكأنها هي حاضر أجيالنا ومستقبلنا.
ما أدعو إليه بوضوح شديد ليس الدخول بنقاش مع أحد، ولا تأييد وجهة النظر هذه، أو تلك، وإنما تأكيد ما يجمع الناس، ويزيد من لحمتهم، لأنه إذا استمررنا على هذا المنوال بين الفترة والأخرى في هذا الجدل العقيم، وغير المنتج، الذي لن يقدم لنا شيئاً جديداً، أو مفيداً، فإننا نكون بذلك قد سلمنا التاريخ عملية اغتيال حاضرنا ومستقبلنا، من دون أن نأخذ عِبراً وخلاصات منه، ونبقى نعيش الحاضر في الماضي، وندمر المستقبل.
بسام أبو عبدالله ـ الوطن السورية
Discussion about this post