القانونية أمل عبد الهادي مسعود
عمت سورية بالأمس فرحة النصر بفك الحصار عن مطار كويرس العسكري الذي دام قرابة ثلاثة أعوام. لكن السؤال ما أهمية هذا المطار من الناحية الاستراتيجية، ولماذا هذا الإصرار من قبل القيادة السياسية والعسكرية على تحرير تلك البقعة الغالية من أرض الوطن؟
للإجابة على هذه التساؤلات وانطلاقاً من قاعدة الاهتمام بالسياسة فكراً أو عملا ، يقتضي قراءة التاريخ لأن الذين لا يعرفون ما حدث قبل أن يولدوا محكوم عليهم أن يظلوا أطفالاً. فالقرن التاسع عشر، القرن الأخطر من كل ما سبقه في التاريخ حيث كان العالم مشغولاً بظاهرتين ما زالت مفاعيلهما ونتائجهما مستمرة إلى يومنا هذا، استحوذتا على اهتمامه وتنازعه وهما المسألة اليهودية، والتسابق إلى المستعمرات والتنافس عليها بين القوى الاستعمارية. وكان الفكر الاستراتيجي الأوروبي النافذ حينها وإلى اليوم، يجتهد في محاولة الربط بين هذه العناصر وخلط توليفة لمتناقضاتها يمكن استغلالها في البحث عن مخارج سياسية تناسب مصالح ومقاصد هذه القوى والأطراف، وكانت ملامح الصراع الإمبراطوري على أشده بين قوتين اندفعتا إلى البحر الأبيض المتوسط، وهما بريطانيا وفرنسا.
فالقائد الفرنسي نابليون الذي غزا مصر، كان شأنه شأن كل من سبقه من الغزاة، لم يكد يستقر في مصر حتى راح يمد البصر إلى سورية لكي تكون الزاوية الجنوبية الشرقية للبحر الأبيض المتوسط تحت سيطرته بالكامل؛ أي أنه وعلى مر العصور كان لابد أن تكتمل الزاوية الجنوبية الشرقية للبحر الأبيض المتوسط لتدخل في إطار سياسي واحد يجعل كل ضلع منها تأميناً للضلع الثاني ضرورة الجغرافيا وعبرة التاريخ!
وكان ملفتاً أنه على امتداد التاريخ، أن كل من ضلعي الزاوية الاستراتيجية الحيوية في حالة بحث مستمر عن الآخر بصرف النظر عن متغيرات الظروف وأوصاف العصور وصراعاتها فرعونية أو رومانية أو بيزنطية أو إسلامية أو أوروبية!
وكان اللورد "ولينجتون" قائد الجيوش البريطانية وقاهر نابليون في "واترلو" صاحب نظرية مواجهة محمد علي على ثلاث مراحل: إخراجه من سورية واحتواءه في مصر وإنشاء عازل/حاجز بين البلدين، حيث فرضت الدول الأوروبية على محمد علي معاهدتين الأولى؛ خاصة بحقه في ولاية مصر ووراثتها؛ وأما الثانية فقد كان غريباً أن يكون عنوانها "معاهدة لندن لتهدئة الأحوال في سورية". وكان ظاهر نصوصها تحقيق خروج محمد علي من سورية وفي حقيقة الأمر كانت هذه المعاهدة تمهّد المسرح لهجرة اليهود الواسعة إلى فلسطين.
وإذا كان من الخطأ تصوير التاريخ وكأنه مؤامرة، فالأشد تورطاً في الخطأ تصويره وكأنه مصادفة. ويلمح أي باحث مهتم على أي خريطة للعالم العربي، أن هناك سياسة غربية ثابتة تستهدف عزل "الساحل" عن "الداخل". ففي السنوات الأولى من القرن الماضي كانت موازين القوى الدولية وخطوط التحالفات تتحرك وتظهر معالمها وتوجهاتها إلى احتمال صدام كبير قادم، ولم يكن لدى أحد من المراقبين شك في أن هذه المنطقة سوف تشهد بعضاً من أهم معارك القتال من أجل رسم خريطة جديدة لمواقع القوة والنفوذ. وكان أبرز خطوط الاتفاق الذي عرف لاحقاً باتفاق سايكس بيكو عام 1915:
• أنه لا بد من فصل الساحل والداخل في خريطة جديدة للعالم العربي؛ فالقوى الأوروبية يمكن أن تتقاسم النفوذ في الساحل المطل على البحر الأبيض والمحيط به، وأما الداخل بكل ما فيه من الصحارى والقبائل فأمره معقد ويمكن تركه للعرب إذا ساعدوا على هزيمة تركيا.
• تقسيم العالم العربي إلى خط رأسي مواز للخط الأفقي:
1– الخط الرأسي يعزل الساحل عن الداخل. 2ً- والخط الأفقي يعزل مصر عن سورية بوطن قومي لليهود في فلسطين طبقاً للسياسة البريطانية، من بالمرستون إلى دزرائيلي إلى لويد جورج إلى رئيس الوزراء الحالي إلى هولاند وأوباما…
واليوم، فإن ما تشهده سورية والعراق ومصر هو استمرار لهذا المخطط الذي يهدف إلى تمهيد الأرض والمناخ الدولي لإعلان الدولة اليهودية التي كانت حلم هرتزل ووايزمان.. وما إقامة ما يسمى دولة الخلافة في البادية السورية والصحراء العراقية واختيار مدينة الرقة لها إلا تنفيذاً لهذا المخطط الصهيوني ـ الغربي. والقيادة السورية كانت على وعي تام وإدراك كامل للأبعاد التاريخية والسياسية لهذا المشروع. وقد استشعرت منذ اللحظة الأولى لغزو العراق عام 2003 خطورة هذا المشروع على القضية الفلسطينية، التي تهدف القوى الاستعمارية إلى طمس هويتها القومية والوجودية. وما تنفيذ تنظيم "داعش" الإرهابي لحملات تهجير "الأزيديين" في العراق إلا الخطوة الأولى لعملية التهجير الكبرى التي سوف تنفّذ بحق العرب الموجودين تحت الاحتلال الصهيوني، وتهيئة الظروف والمناخ والرأي العام العربي والعالمي لهذه الخطوة القادمة تمهيداً لإعلان فلسطين دولة يهودية.
وفي هذا السياق، فإن من يسترجع الموقف السوري في السنوات الماضية، وكيف وقف في وجه هذا المشروع "الداعشي"، يدرك أهمية النصر الذي حققه الجيش العربي السوري في فك الحصار عن مطار "كويرس"، وإنجازاته في الريفين الجنوبي والشمالي. ومن يقرأ التاريخ والجغرافيا جيداً يعرف مكانة حلب؛ بوابة الثغور والحد الفاصل في مشروع التقسيم الغربي، يدرك أهمية هذا النصر الذي تحقق وأسقط أحلام الصهاينة وحلفائهم الغربيين في تنفيذ مشروع سايكس بيكو، ومن قبلهما روتشيلد ونابليون، والذي ما زال حياً في عقول ساسة الغرب الاستعماري.
بالمحصلة، فإنّ تغير الأشخاص لم يغيّر من المشروع شيئاً. وإذا كان بالأمس كليمنصو ولويد جورج وعبد العزيز آل سعود يحلمون بإنشاء وطن بديل لليهود في فلسطين، الجزء الجنوبي من بلاد الشام، فإن حرب أولادهم وأحفادهم وأدواتهم ممن تسمى "بالتنظيمات الجهادية"، على سورية هي استمرار لتنفيذ هذا المشروع التقسيمي، ولكن صمود الجيش العربي السوري وانتصاراته، أوقف هذا المشروع وأحبطه، وهو الآن في المرحلة الأخيرة لإسقاطه.
المصدر: محطة أخبار سورية
Discussion about this post