تأمين أموال لدعم النازحين من سورية الى البلدان المجاورة يبدو عملاً مشكوراً غير قابل للانتقاد مهما اعتراه فساد سياسي وشخصي، يكفي أن عشرات الأشخاص الذين أشرفوا على توزيع المساعدات في لبنان أصبحوا بين ليلة وفجرها من فئات الاغنياء الموسرين.
المشكلة اذاً ليست في تجميع الاموال بل في توظيفها. فقبل سنة واحدة كانت أعمال تخصيص مساعدات للنازحين على ندرتها لا تلقى اعتراضاً على الرغم من وضعها في خدمة التوظيف السياسي لمصلحة معارضي الدولة السورية من جهة ولتأييد السياسات التركية والأردنية والأحزاب المتطرفة في لبنان من جهة ثانية وتتريك السوريين من جهة ثالثة.
أما في المرحلة الراهنة فاستطاع مؤتمر بروكسيل للنازحين وبسرعة مدهشة لم تكن تحدث سابقاً تخصيص سبعة مليارات يورو للنازحين في لبنان والأردن وتركيا، لتغطية نفقاتهم لسنتين متتاليتين في 2019 2020 وبما يشمل النازحين في شرقي الفرات والشمال.
هناك نقطتان مريبتان في هذا المؤتمر الأولى أنه ينعقد في مرحلة نجحت فيها الدولة السورية من استعادة نحو سبعين في المئة من أراضيها ووسط انهيار المشروع الإرهابي الذي كان يعمل على مشروع خلافة راديكالية متطرفة بالترافق مع تصدع ادوار القوى الدولية والعربية التي استثمرت به في السنين السبع المنصرمة، تركيا بمفردها تمكنت من الاستمرار في ادوارها السورية الداعمة للإرهاب والعاكسة طموحاتها بواسطة تقاطعاتها السياسية مع الاخوان المسلمين وسيطرتها على حدود طولها ألف كيلومتر والتاريخ المشترك مع سوريين من أصول تركمانية مع هيمنة المخابرات التركية على معظم التنظيمات المتطرفة بوسيلة الامساك بهم من خلال الحدود المشتركة لجهة النقطة الثانية المثيرة للريبة، فهي أن الدولة السورية باشرت باستقبال النازحين بإلغاء معظم أنواع المعوقات القانونية وتقديم تسهيلات اقتصادية ومعيشية للزوم الاستقرار.
فعاد كثيرون منهم خصوصاً من الأردن وقسم من نازحي لبنان باستثناء الموجودين في تركيا الذين تشجعهم دولتها على الاستقرار في مناطق سيطرتها في الجيب الحدودي الذي تحتله بالإضافة الى عفرين وادلب، وهذا تفسيره السياسي في سعي نظام اردوغان التأسيس لمشروع كانتون مستقل في تلك المناطق برعايته او ضمّه لتركيا اذا سنحت الظروف.
لجهة منظمات الامم المتحدة المعنية فابتدأت مؤسساتها الميدانية من تحذير النازحين من العودة من الفوضى التي تسود سورية حسب زعمها، أو احتمال سحبهم الى التجنيد الإجباري، وتخبرهم بعدم وجود اعمال فيها، لكن حركة العودة بدأت تزداد، خصوصاً بعد عفو الدولة السورية عن المخالفات السابقة وتوفيرها للمستلزمات الاساسية للاستقرار.
هذا الى جانب الانخراط الروسي في جذب النازحين للعودة الى وطنهم وذلك بجهود تبذلها روسيا مع ممثلين عن النازحين او مسؤولين في دول النزوح لبنان والأردن وتركيا. فالروس يعرفون مدى العلاقة البنيوية بين الاستقرار الاجتماعي والاستقرار السياسي، الأمر الذي جعل موسكو توفر إمكاناتها السياسية لخطة هذه العودة لاهميتها لسورية وإيران وروسيا، فهي تعرف ان قوة الدولة السورية عامل حاسم في معركة عودتها الى الشرق الاوسط.
لجهة الجهود الإيرانية فركّزت حركتها من خلال الدور الرسمي السوري لقطع دابر المزايدات المذهبية والطائفية التي يمكن استغلالها، لكنها لم تبخل بالعون الاقتصادي لدعم الدولة في مشروع إعادة النازحين.
ضمن هذه المناخات انعقد مؤتمر بروكسل للنازحين في إطار الاتحاد الأوروبي والبلدان المضيفة مخصصاً ستة مليار يورو لـ «دعم النازحين» في سنتين متتاليتين 2019 2020 معظمها لتركيا، ماذا تعني هذه القرارات؟
أولاً دعم النازحين في أماكن نزوحهم خارج سورية وتخصيص الجانب التركي بالحصة الأكبر لسبب مركزي يرتبط بما أعلنه الرئيس التركي اردوغان بما يشبه التهديد أن بلاده تخشى من نزوح السوريين من إدلب وعفرين الشمال نحو أوروبا مثيراً الرعب في القارة العجوز.
وتأتي أموال هذه المساعدات الأوروبية لدعم المشروع التركي باستغلال النازحين في بلاده ووضعهم في خدمة مطامعه العثمانية او «الاخوانية» وتؤمن صمودهم في لبنان بالتعاون مع التيارات الدينية والسياسية الموالية للسعودية وتحاول توفير بعض مستلزماتهم للبقاء في الأردن، على الرغم من أن وزير الخارجية الأردني قال في المؤتمر إن 95 من النازحين السوريين في مخيم الركبان قالوا لمثلي الامم المتحدة إنهم يريدون العودة الى ديارهم، فأبدى وزير خارجية تركيا دهشته رافعاً حاجبيه العثمانيين.
هذا يؤكد أن الغرب الأميركي والأوروبي والترك والخليج بالاستتباع يسعون للإبقاء على النازحين في لبنان والأردن وتركيا.
ولهذا تفسير وحيد يذهب نحو منع الاستقرار الاجتماعي والسياسي واستعمال النازحين والكرد والترك وشرقي الفرات بديلاً من المشروع الإرهابي المتصدّع.
وله بعدٌ آخر، يتعلق بعرقلة الصعود الروسي المتخذ من سورية منصة للانطلاق نحو الشرق الأوسط.
هذا الى جانب تقليص الدور الإيراني وإنهاكه في الحصار الأميركي على طهران وقطع علاقتها بسورية.
لذلك فإن «بروكسل» ليس إلا مشروعاً لاستمرار الحرب على سورية ومحاولة لتفتيتها بلبوس أعمال خيرية مشبوهة، فهل يؤدي المؤتمر وظائفه؟ لن يكون أقسى من مرحلة 2011 2019 التي شهدت تواطؤ أكثر من ستين دولة مع مئات آلاف الإرهابيين لتدمير سورية، فحاربتهم وهزمتهم. وهي اليوم أكثر استعداداً لقتال الإشكال الجديدة للصراع وتكفي الإشارة الى أن استبعادها وهي بلد النازحين عن مؤتمر ستوكهولم مؤشر على استهدافها، لكنها لن تتنازل عن استعادة كل النازحين حتى ولو كانوا في أقصى الأرض.
د. وفيق إبراهيم – البناء
Discussion about this post