في بلادكم تستطيعون إدخال كلّ الممنوعات عبر المنافذ الحدودية، إلا الفكرة.
عبارةٌ قالها يوماً أحد أساتذة القانون الدستوري في جامعة فرانسوا رابليه الفرنسية ساخراً من الحال الذي كانت عليه الدول العربية قبل الربيع العربي، ربما أراد من خلال عبارته ضرب عصفورين بحجرٍ واحدٍ، توصيف درجات الفساد التي تلف هذه الدول، وحال الأنظمة التي تمنع الشعوب من استنشاق الهواء النقي فكرياً.
هذه العبارة عادت لذاكرتي قبل سنواتٍ عندما قررت الذهاب إلى سورية عبر الجزائر لا لبنان، ومن منّا لا يحلم بأن يتشرفّ بزيارة بلد المليون شهيد؟
في المطار مرّت جميع الحقائب بسلام إلا حقيبة كان فيها بعض من الكتب، حيث فتحها موظف الجمارك وبدأ بتدقيق عناوينها كتاباً كتاباً بما فيها روايات الأطفال، لا أنكر أن خوفاً اعتراني عندما وقع يدهُ على كتاب «العربية السعودية: الديكتاتورية المحمية» لأنه كتاب يتحدث فيه مؤلفهُ جان ميشيل فولكيه عن الضرورة المالية التي تمثلها المملكة بالنسبة للغرب الديمقراطي، لكن الموظف مرّ عليه مرور الكرام وهنا أدركتُ أن ما يبحث عنهُ الموظف لن يجده في حقيبتي، لأن ما يقوم به ببساطةٍ ليس إغلاق المنفذ الحدودي بوجه الأفكار كما يُروّج في الغرب الديمقراطي عن جمهوريات الشرق البائس، بل إن ما يقوم به هو منع الأفكار المتطرفة من الولوج بسلاسةٍ عبر المعابر الحدودية، إعجابي بما فعلهُ موظف الجمارك لم يستثر غضبي فقط من الدعاية الغربية تجاه دولٍ نحبها، لكنه بذات الوقت جعلني أردّد بسكينةٍ وهدوء: لا خوف على الجزائر.
نجت الجزائر بنفسها خلال سنواتٍ من ربيع الدم العربي لتكون بذلك الجمهورية الوحيدة الناجية، تحديداً أن هذه المحرقة علمتنا ببساطةٍ إنها لن تسلك طريقها إلى الممالك أو المشيخات المحمية، أما لبنان والعراق فهما بالأساس يعانيان ما هو أسوأ من الربيع العربي، وهل هناك في العالم أسوأ من أنظمة سياسيةٍ يديرها أُمراء الطوائف؟
لكن هذا النجاح يجب ألا يجعلنا نُغفل نقطةً مهمة بأن الجزائر هي من أوائل الذين اكتووا بنيران التطرف والإرهاب بل إن الواقعية تجعلنا نقول ببساطةٍ إن ما حدث في الجزائر من جرائم للإخوان المسلمين بمسمى «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» مطلع التسعينيات من القرن الماضي، فاق ما عانتهُ سورية من ذات العصابة خلال الثمانينيات من القرن الماضي، تحديداً أن سورية الدولة بقيت متماسكةً رغم شراسة الإرهابيين في جرائمهم ضد المدنيين وإدارات الدولة، أما في الجزائر فإن فراغاً في السلطة قد حصل بعد استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد ليجد الجيش الجزائري نفسهُ أمام مهمةٍ مزدوجة، الحفاظ على مدنية الدولة، والوقوف بوجه مصاصي الدماء من متطرفين وإرهابيين، وهو ما قدّم لأجله تضحياتٍ لا تقل عن التضحيات التي قدّمها الجزائريون لنيل استقلالهم.
كذلك الأمر ومع بداية عام 2012 كان النظام في ليبيا قد انهار تماماً، أما في سورية فإن قادة الحرب عليها كانوا مقتنعين بفرضية أن «أيام النظام معدودة»، كان التفكير باستتباع الأمر في الجزائر كيف لا وهي دولة تتمتع باحتياطٍ ماليٍّ يفوق 100 مليار دولار، واحتياطٍ هائلٍ من الثروات أهمها الغاز والطاقات البشرية، والأهم من هذا كلّه أنها مع سورية، الدولتان الوحيدتان اللتان لم يتمتعا بأي شكلٍ من أشكال الاتصال المباشر أو غير المباشر مع الكيان الصهيوني.
حمل القطريون لواء استهداف منافسهم الأهم في سوق الغاز في المنطقة بعد حصارها من جهة الشرق بـ«الإمارات الليبية الناشئة» وفي الغرب بعلاقاتٍ مقطوعة مع المغرب وفي الجنوب عبر دعم التنظيمات الإرهابية في مالي، يومها عنونت صحيفة «لاكنار» الفرنسية بالقول: «صديقنا في قطر يمول إسلاميي مالي»، الصحيفة لم تخف اقتناعها أن أجهزة الاستخبارات الفرنسية تعلم أن الجماعات المسلحة هناك تلقت أموالاً من قطر من أجل إنجاز مهمتها بإقامة إمارةٍ إسلاميةٍ على الحدود مع الجزائر، لتكون مرتبطةً مستقبلاً بالاستثمارات القطرية في ثروات الساحل من نفط وغاز، لكن المحاولة فشلت بعد أن حشد الجيش الجزائري الآلاف من مقاتليه ولا يزالون حتى اليوم يعملون على تأمين الحدود الأخطر التي يتوقع أن يأتي عبرها السلاح والإرهابيون، لدرجة أن الجماعات الإرهابية هناك خرجت عن السيطرة حتى من مموليها، ما دفع الجيش الفرنسي يومها للتدخل العسكري منفرداً في مالي.
حقيقتان مهمتان توصلان لنتيجةٍ مفرحة بأن الجيش والشعب الجزائريين أسقطا فكرة إمكانية استهداف الجزائر عبر الإرهاب، لكن هل يكون الحل البديل بالقوة الناعمة عبر كذبة الحرية أو الديمقراطية؟
منذ إعلان جبهة التحرير الوطني، وهي الحزب الحاكم في الجزائر عن ترشيح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لخوض انتخابات الرئاسة القادمة، وتأييد الأحزاب الحليفة له، قوبل هذا الإعلان بالكثير من الغضب وردات الفعل المنتقدة لهذا القرار انتهى مؤخراً بخروج العديد من المظاهرات في عدة مدنٍ جزائرية ترفض ترشح الرئيس لولايةٍ جديدة.
في الواقع فإن هذه المظاهرات والاحتجاجات ليست الأولى من نوعها في تاريخ هذا البلد، بل إن الجميع اليوم يستحضر تلك المظاهرات التي عمّت البلاد في العام 1988 بعد انهيار أسعار النفط واشتداد الأزمة الاقتصادية في البلاد، يومها طالب المحتجون بإلغاء فكرة الحزب الواحد الحاكم، ما دفع بالسلطة لإجراء إصلاحاتٍ أدت لفتح المجال أمام الحريات السياسية والإعلامية.
اليوم هناك من يستحضر هذا السيناريو خوفاً من دخول الجزائر في المجهول خلال مرحلة ما بعد بوتفليقة، وللإجابة على هذا السؤال لابد أولاً من الأخذ بعين الاعتبار النقاط التالية:
أولاً: لا أحد يستطيع إنكار الدور الذي لعبهُ الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة سياسيّاً للنجاة بالجزائر من كل هذه المحارق خلال العقدين الماضيين، بمعزلٍ عن قضايا الفساد وتوزيع الثروة هذا شأنٌ داخلي متروك للجزائريين، حتى إن المتظاهرين الذين خرجوا ضد إعادة ترشيحه لولايةٍ خامسة قد لا يدرون بأغلبيتهم أنهم قد خرجوا ضدّ ما يمثلهُ من سياسةٍ، بقدر ما أن اعتراضهم كان على وضعهُ الصحي وهذا الأمر قد يكون منطقياً من دون أن نغفل نقطةً مهمة أن الجميع يركزون بالصورة على المعترضين على ترشح بوتفليقة، لكن التكتل الحاكم بالنهاية يتمتع بشعبيةٍ كبيرة وشارعهُ لم يُختبر بعد، وهو يبدو ما طلبهُ الجيش لمنع الوصول إلى نقطة «شارعٍ مقابل شارع».
ثانياً: إن الجزائر بلد يتمتع فيه المواطنون بحق التظاهر بل إن تعاطي قوات الأمن والتعاطي الإعلامي مع الاحتجاجات كان أنموذجاً لكل الذين يخافون في إعلامهم الرسمي حتى من نشر صورةٍ لجمهرةٍ من المواطنين وهم ينتظرون دورهم للحصول على أبسط الحقوق الحياتية! هذا التعاطي الرسمي المسؤول مع الاحتجاجات، لم يقطع الطريق على الغرب الذي ينافق باستثمار أي مطالب شعبية، كأن يعلن مسؤولون فرنسيون عن قلقهم تجاه ما يجري في الجزائر، وبذات الوقت يصر الإعلام الرسمي الفرنسي على مصطلح «مخربين» لوصم احتجاجات «السترات الصفراء»، لكنه بذات الوقت يقطع الطريق على استغلال الجماعات المتطرفة ومن بينها الأخوان المسلمون لمثل أحداث كهذه، لأن الإسلام السياسي وبكل تجلياته مثال حي ودائم عن قذارة «الابتزاز السياسي».
ثالثاً: التركيبة الاجتماعية للجزائر والتي تشكّل نوعاً ما صمام أمانٍ ضد فرضية أن تأخذ الاحتجاجات أشكالاً عنفية، ولكي لا ندخل في متاهات التعداد المذهبي وغيره لندقق بالصور المتداولة عن الاحتجاجات، فهي مثلاً لم تخرج من الجوامع لتحول بيوت اللـه من مكانٍ للصلاة إلى مقراتٍ للوعد والوعيد، وهي تضم نماذج مختلطة من الذين يريدون التعبير عن نظرتهم لمستقبل بلادهم، ما يجعل إمكانية تحول الاحتجاجات إلى حمام دم مستبعداً، ففي سورية مثلاً كان «ثوار الناتو» حذرين في التظاهر على «ما يرضي شرع الله»، هل كانت امرأة سافرة الوجه أو الرأس تستطيع الذهاب للتظاهر مع ثوار «كفرنبل» مثلاً!
قد يقول البعض ما الفرق بين التركيبة الاجتماعية اليوم والتركيبة الاجتماعية في تسعينيات القرن الماضي عندما استغلها الإرهابيون؟ هنا الفروق واضحة ولعل أهمها هو التعلم من دروس الماضي ودروس الآخرين.
رابعاً: ضعف المعارضة الجزائرية وانكشافها أمام الجزائريين، فأحد هؤلاء مثلاً معروف بأنهُ تابعٌ لقطر ووريث الفكر الذي شكله بعض المعارضين لاستقلال الجزائر عن فرنسا، هذه الطبقة من السياسيين والناشطين مكروهة أساساً لأنهم يعومون في بحر الاستعمار الفرنسي لا أكثر، أما الوجوه الثانية فهم إما خاضوا انتخاباتٍ سابقة وخرجوا بنتيجةٍ مذلة أو أنهم شخصيات لا ينجحون حتى في الانتخابات البرلمانية في مدنهم فكيف سينجحون في انتخاباتٍ رئاسية؟
في الخلاصة: يبدو أن التفكير بمرحلة ما بعد بوتفليقة ليست بهذا التعقيد، تحديداً فهناك في الجزائر أشخاص قادرون على ملء الفراغ والانطلاق بالجزائر نحو مستقبلٍ يرسمهُ أبناؤها بعيداً عن الفساد والمحسوبيات كآفتين تنهشان جسد كل الدول في هذا الشرق البائس، والأهم بعيداً عن كل الأفكار التي تريدنا أن ننسى مشاعر أي سوريٍّ محب سيرتعش قلبهُ عندما يأتي على مسامعه اسم «بلد المليون شهيد»، بما فيها الأفكار التي ما زال يكررها أحفاد الاستعمار القديم.
نحن لا نمنع الأفكار من المرور، نحن نمنع السموم من الوصول لمجتمعاتنا، والجزائر حكماً أنموذجاً، ولا خوف على الجزائر.
فراس عزيز ديب ـ الوطن السورية
Discussion about this post