د . مازن المغربي
أثار كتاب صدر في نهاية العام الماضي في ألمانيا تحت عنوان Gekaufte Journalisten اهتمام الصحافة الناطقة باللغة الإنكليزية نظرا” لمكانة الكاتب ونظرا” لغزارة المعلومات التي تضمنها .
محرر الكتاب هو أودو أولفكوتيه (Udo Olfkette) وهو صحافي ألماني من مواليد عام 1960 درس علم القانون المقارن والعلوم السياسية في مدينة فريبورغ الألمانية وفي لندن وعمل مستشارا” حكوميا” في عهد هلموت كول ويعتبر ضليعا” بشؤون الشرق الأوسط حيث قضى الفترة ما بين 1986-1998 متنقلا” بين العراق وأفغانستان والسعودية وعمان والإمارات العربية المتحدة ومصر والأردن.
كما عمل أيضا” في مؤسسة كونراد أديناور بين 1999-2003ونال جائزة مؤسسة أنيت بارتهايت عام 2003
عمل هذا الصحافي طوال سبعة عشر عاما” في صحيفة فرانكفورتر ألغماين وهي من أهم الصحف الألمانية وتمتلك القدرة على رفع من تشاء إلى القمة كما تمتلك القدرة على تحطيم حياة من تشاء وهو أمر سبق أن خلده الروائي الألماني هينريش بول الحائز على جائزة نوبل للآداب في رواية شرف كاترينا بلوم المفقود الذي حمل عنوانا” جانبيا” هو كيف يولد العنف قدم فيه صورة عن قدرة الإعلام
على تدمير السيرة المهنية لأي شخص بغض النظر عن مكانته مستلهما” تجربته خلال الحرب الظالمة التي كان الكاتب ضحية لها لأنه طلب علنا” محاولة فهم مطالب الجماعات اليسارية فكان الرد بحملة مرعبة دفعت الروائي الكبير إلى التفكير بالرحيل عن بلاده.
مسيرة حياة حافلة ومتقلبة.
ولد أودو أولفكوتيه في عائلة مسيحية لكنه تخلى عن ديانته وهو في الحادي والعشرين من العمر ليصبح ملحد يتعلق الأمر هنا بتفصيل يتعلق بوضع الكنيسة في جمهورية ألمانيا الاتحادية حيث يتم اقتطاع نسبة من دخل الفرد لصالح الكنيسة التي ينتمي إليها إلا في حال إعلان الشخص المعني ثم رغبته في الانفصال عن الكنيسة وقد لا يترافق هذا بالضرورة بإعلان الإلحاد.
أصدر هذا الصحفي مجموعة كبيرة من الكتب بلغ 12 كتاب تضمنت عناوين مثيرة مثل الحرب المقدسة في أوروبا الذي صدر عام 2007 والحرب في الظلام ( السلطة الحقيقية لأجهزة الاستخبارات) الصادر عام 2006 وكتاب الحرب في مدننا الذي أصدره عام 2003 وحذر فيه من احتمال اندلاع مواجهات عنيفة بين الجاليات الإسلامية والسلطات الأوروبية في البلدان المضيفة.
قد يكون هناك انطباع عام لدى الناشطين السياسيين في ألمانيا بوجود جهة ما تتحكم بتوجهات وسائل الإعلام الألمانية كجزء من إعادة تشكيل الدولة الألمانية الحديثة على ركام دولة الحزب النازي حيث تم ضمن هذا السياق بذل الكثير من الجهود بهدف طحن الذاكرة الجمعية للشعب الألماني وإعادة تشكيلها إلى حد وصل فيه الأمر إلى مشاركة ألمانيا في الاحتفالات التي تقام في ذكرى انتهاء الحرب وهي ذكرى هزيمة ألمانيا.
وهنا لا بد من الإشارة إلى حقيقة قد تكون غائبة عن ذهن الكثيرين فعلى العكس من وضع الدول التي خضعت لاحتلال قوات العدو المنتصرة لم يتم حتى الآن توقيع اتفاقية تمنح ألمانيا السيادة التامة على أراضيها حيث قام الحلفاء بتقاسم الأراضي الألمانية التي جزئت إلى أربعة مناطق ، منطقة احتلال سوفيتي عرفت لا حقا” باسم جمهورية ألمانيا الديمقراطية و ثلاث مناطق خضعت لاحتلال جيوش الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا تم توحيدها لاحقا” في إطار جمهورية ألمانيا الاتحادية.
وبعد انهيار جدار برلين انسحبت قوات الاتحاد السوفيتي من ألمانيا وتم ابتلاع جمهورية ألمانيا الديمقراطية لكن لم يتم إجراء أي مفاوضات لسحب القوات المنتصرة وإغلاق القواعد العسكرية وما تزال الولايات المتحدة تستخدم أراضي ألمانيا الاتحادية لتخزين أسلحة نووية وهو أمر لم يتم أبدا” عرضه على الشعب الألماني.
لكن أن يصدر كتاب يعري بعض الحقائق عن واقع التبعية الألمانية بقلم شخص عمل على مدى عقدين من الزمن في مؤسسة عملاقة يجعل من هذا الصحافي أول شخص يحتل مركز مهم في الصحافة الألمانية وفي الإعلام ويقر علنا” بأنه عمل نشر قصص لفقتها وكالة الاستخبارات المركزية ذيلت بتوقيعه.
مبررات إصدار الكتاب
بعد مسيرة مهنية ناجحة بمقاييس الغرب قرر الرجل تفجير مفاجأة من العيار الثقيل عندما أصدر كتاب حمل عنوان صحافيون تم شرائهم تحدث فيه عن العلاقة الوطيدة التي تربط وكالة الاستخبارات المركزية وهيئة الاستخبارات الألمانية بوسائل الإعلام والكتاب لم يتوفر حتى الآن إلا باللغة الألمانية فقط.
برر الرجل موقفه الجديد بأنه شعر أنه لا يوجد ما يخسره فليس لديه أولاد يخشى عليهم من انتقام أجهزة الاستخبارات وأن وضعه الصحي المتردي يجعله مستعد للمواجهة وهو أوحى بأن مخاطر اندلاع حرب في أوروبا نتيجة للأزمة التي تعصف بأوكرانيا دفعه إلى التحذير من دور الإعلام الموجه لخدمة سياسة حلف الناتو.
ويبدو أن هناك شيء من الضغينة تجاه موقف إدارة الصحيفة فالرجل تعرض لإصابات جسيمة في طهران إثر غارة بالأسلحة الكيميائية خلال تغطيته أخبار الحرب العراقية الإيرانية وحز في نفسه أن تلك الأسلحة كانت من إنتاج بلده ألمانيا التي باعتها لنظام صدام حسين والأدهى من ذلك كان رفض إدارة الصحيفة تغطية مسألة استخدام الأسلحة الكيميائية ضد أهداف إيرانية مدنية لأن النظام العراقي كان وقتها يحظى برعاية الغرب .
وسبق للرجل أن التصريح في مقابلة صحافية مع مجلة روسية بأن الانصياع لإملاءات وكالة الاستخبارات المركزية يمثل القاعدة في الصحف ووسائل الإعلام الكبرى في ألمانيا وان الصحفي الذي يتمرد على هذه القاعدة يحكم على نفسه بالفشل وفقدان فرص العمل .
كما أقر الرجل في كتابه بأنه روج قصص كاذبة صاغتها وكالة الاستخبارات المركزية ومن بينها رواية قيام الرئيس الليبي السابق ببناء مصانع لإنتاج الغازات السامة عام 2011.
كما رح في مقابلة صحفية بأنه استلم من محامي الصحيفة خطاب تهديد بتحمل كافة النتائج في حال نشر أسماء أو فضح أسرار ردا” على مبادرته لإعلام الصحيفة بمشروعه.
قدم الرجل وصفا” مبسطا” لمسار توريط الصحافيين حيث قال الأن الأمر يبدأ بتوطيد صلة الصداقة مع أشخاص تم انتقاءهم في الولايات المتحدة بحيث تعتقد أنهم صاروا أصدقاءك وتبدأ بالتعاون معهم وسرعان ما تجدهم يباشرون بكيل المدائح وإيهامك بأنك شخص هام إلى أن يحين الوقت الذي يرونه مناسبا” لإفهامك ما هو مطلوب منك.
وأقر هذا الصحافي بأن زملاء المهنة الذين يقومون برحلات لتغطية قضايا دولية تتحمل تكاليفها وثيقة الصلة بالحكومة لا يميلون لتقديم رواية لا ترضي الجهة الراعية
وفي مقابلة أخرى مع صحيفة هنغاريا اليوم في الخامس والعشرين من شهر تشرين أول 2014 صرح الرجل بشكل واضح بأن مسودة الكتاب قديمة لكن توقيت صدوره مرتبط بالتغطية الإعلامية المنحازة في موضوع الأزمة الأوكرانية وأن الصحافة الغربية تساهم في دفع الأمور نحو الحرب مع تركيزه على أنه لا يعتبر مؤيد لروسيا.
تعتيم إعلامي.
حقق الكتاب أرقام مبيعات جيدة وضعته ضمن قائمة الكتب الأكثر رواجا” لكن بالمقابل تجاهل الإعلام الألماني موضوع الكتاب بشكل تام ولم يصدر عن الصحيفة المعنية الأمر أي ردة فعل كما لم يقم أي صحافي ألماني بالتعليق على الكتاب الأمر الذي ذكرني بمفارقة تتعلق بالإعلام الجماهيري وكيف يتم توجيهه وفق خطط محكمة وصارمة.
فقبل سنوات نشر شاعر إيطالي ملتزم بالقضية الفلسطينية مجموعة شعرية عن معاناة ونضال الشعب الفلسطيني وعندما سألته من قبيل المجاملة عن عدد النسخ المباعة أجاب بأنها بلغت الخمسة آلاف نسخة الأمر الذي أثار استغرابي لأن الرجل كان يتحدث دائما” عن خضوع عمليات النشر في إيطاليا لمجموعات ضغط مرتبطة بالحركة الصهيونية .
لكن سرعان ما تبدد استغرابي بعد سماعي تحليل المسألة حيث أن خمسة آلاف نسخة من ديوان شعر ملتزم قد يعتبر إنجازا” بالمعايير السورية لكن الأمر مختلف في إيطاليا حيث لا يعتبر الكتاب رائجا” إلا تجاوز عتبة المئة ألف نسخة وعلمت أن عملية الفلترة والتضييق تبدأ مع بلوغ المبيعات حدود الخمسة وعشرين ألف نسخة والأهم من ذلك هو تعامل وسائل الإعلام مع الكتاب أما بيع بضعة آلاف النسخ من كتاب مناهض للصهيونية فيدخل في إطار تقديم وهم بوجود حرية نشر.
لقد عانينا في سوريا الكثير من الحملات الإعلامية التي نظمتها الصحافة الغربية التي يصر البعض على وصفها بالحيادية والموضوعية ونأمل أن يؤدي نشر هذا الكتاب إلى دفع البعض في إعادة النظر في نظرتهم إلى جنات الديمقراطية التي يعد بها التحالف الغربي.











